العدد الثالث - سنة 2023

08 - خاطرة - من زاهريّة طرابس إلى مدرسة مار الياس - شفيق حيدر - العدد 3 سنة 2023

من زاهريّة طرابلس…

إلى مدرسة مار إلياس

شفيق حيدر

مجلة النور العدد الثالث – 2023

 

لا أريد أن أدوّن في هذا المقال شيئًا من السيرة الذاتيّة. تلك عادة لجأ إليها رجالات عملوا في الأدب والسياسة والاقتصاد والفكر، وتركوا، في هذه الميادين كلّها، بصماتٍ حفظها لهم التاريخ، وأتوا مآثر جليلة ما زالت تدلّ عليهم وترصفهم في عداد الخالدين. إنّني لا أعدّ نفسي بين هؤلاء العظام وما ادّعيتُ ذلك، ولن أدّعيه يومًا. الأمر بسيط للغاية، انكببت على كتابة هذا المقال مبيّنًا فيه منطلق عملي في التربية والتعليم ومدوّنًا بعض التجارب والخبرات التي مرّت عليّ سحابة خمسة عقود ونيّف، من العام الدراسيّ 1960-١٩٦١ حتّى 2015-2016. ترسم الصفحات الآتية بداءات قصّتي مع مدرسة بلغ عمرها الآن مئة وثلاثًا وعشرين سنة.

في عائلة بُنيَت على زوجين متحابّين أبصرْتُ النور مع توأمي نديم. تقاسمت معه الغذاء والهواء ودفء الرحم. تمّ ذلك في الشهر الأخير من السنة التسعمائة والأربعين بعد الألف. وكانت الشقيقة سعاد قد سبقتنا إلى البيت قبل ما يزيد عن سنة. نعمنا باللطف والاحترام لأنّ الوالدَين كانا يلاحظان عن بعد ويحاوران بهدوء يلامس الصمت. حظينا، منذ الطفوليّة، برعاية متفهّمة واهتمامٍ بالغٍ ظهرا في خَفَر المراقبة، ولطف المحاسبة والتنبيه، والسهر على دروسنا، وتربيتنا على التقوى ومكارم الأخلاق. 

من مدرسة البنات الوطنيّة للروم الأرثوذكس في الزاهريّة بطرابلس، حيث أنهيْتُ مع نديم الروضات وسنتين من المرحلة الابتدائيّة، انتقلنا إلى معهد إخوة المدارس المسيحيّة (الفرير) في الزاهريّة أيضًا، يوم كان هذا الحيّ زهرة المدينة. وفي هذا المعهد أكملنا الدراسة الثانويّة. وأنعم اللَّه علينا أن نمونا في جوّ عابق بطيب الأرثوذكسيّة المشرقيّة، وأريج صلواتها وخدمها وتراتيلها. فالمواظبة على خدم الجماعة مسلَّمَةٌ في العمارة التي جمعتنا إلى الخال والخالة مع الجدّة والعرّابة. وطبعت الدينيّاتُ تصرّفاتنا واهتماماتنا، ولا عجب في ذلك إذ في عائلتَي الوالد والوالدة كهنةٌ ومرتلٌ خدموا في طرابلس وملبورن - أوستراليا. ولا غرابة في أن نربو أيضًا على الإخلاص للوطن وقضاياه في فترة النضالات من أجل استقلال دول المنطقة وتحرّر مواطنيها. فسعينا لخدمة اللَّه في السبل التي سلكنا وفي الخيارات المهنيّة والنشاطات المجتمعيّة والوطنيّة.

ولا يفوتني أن أذكر رائحة زهر الليمون التي ملأت رئتيّ منذ الطفولة، إذ كان سكننا في آخر طريق المئتين المتاخم للبساتين آنذاك، ومنها كانت تفوح الرائحة الزكيّة وتتضوّع، وهي التي أعطت طرابلس نعتها «الفيحاء». في هذا الجوّ قضيت الطفولة واليفاع، وبلغت إلى الشباب. 

وشاءت العناية الإلهيّة أن أنخرط، مع رفاق كثر، في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في مستهلّ المرحلة الثانويّة. وفيها التقيْتُ الأخ المرحوم قيصر بندلي (متروبوليت عكّار وتوابعها المطران بولس في ما بعد)، وكان مرشدًا لنا في دراسة الكلمة الإلهيّة والصلوات، ومرافقًا لفرقتنا في الرياضات الروحيّة والرحلات، فتمتنت الصّلة به. كنّا نلتقي في دار المطرانيّة في الزاهريّة يوم كان المثلّث الرحمة البطريرك ثيودوسيوس (أبو رجيلي) مطرانًا على طرابلس والكورة وتوابعهما. ولن أنسى مرافقة المطران الجليل لنا سامعًا في بعض الأحيان، والبِشرُ على محيّاه، ونادرًا ما كان يعلّق بمداخلات قصيرة.

أثّر فيّ كثيرًا المرشد قيصر بندلي فرغبت في امتهان مهنة التعليم مثله وهو مدير مدرسة مار إلياس في الميناء وأستاذ العلوم في صفوفها الثانويّة. ولـمّا أحرزتُ البكالوريا اللبنانيّة (فرع الفلسفة) أبديت رغبة في العمل في «مار إلياس» مدرّسًا. وراق هذا الطّلب إلى الأب بولس بندلي (الأستاذ قيصر) فاستقبلني ورعى خطواتي الأولى في التعليم. ارتبطْتُ معلّما استجابةً لرغبة تريح النفس وتحقّق المنى.   

بدأْتُ، وأنا حاملٌ الشهادة الثانويّة إذ ذاك، معلّمًا، في الصفوف المتوسّطة، لموادّ عدّة، حدّدها لي المدير، وهي اللغة العربيّة والفيزياء والطبيعيّات والاجتماعيّات واللغة الفرنسيّة. وانتسبتُ أيضًا إلى الجامعة اللبنانيّة – كلّيّة الآداب في بيروت، التي لم تتفرّع إلّا السنة 1978 بعد الحرب العبثيّة التي قطّعت أوصالَ لبنان. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تفريع الجامعة اللبنانيّة أدّى إلى نشر التعليم العالي في أكثر من منطقة، وهذا أفاد كثيرًا، إلّا أنّ ضعفًا في المستوى رافقه في بعض الاختصاصات.

وتابعْتُ، فيما أعمل، دراسة اللغة العربيّة وآدابها على يد أساتذة كبار أستذكر منهم فؤاد أفرام البستاني  وبطرس البستاني (صاحب أدباء العرب) وسعيد البستاني وكميل البستاني وأحمد مكّي ومحمّد علي مكّي ورينيه حبشي وسعيد عقل والشيخ صبحي الصالح  وأنطوان غطّاس كرم والشيخ عبداللَّه العلايلي وأسد رستم  والأب بيروز والسيّدة حرم جبران مجدلاني وأحمد أبو حاقه...

 ثمّ أنصرفْتُ إلى تدريس الأدب العربيّ والفلسفة الإسلاميّة في المرحلة الثانويّة. فقضيتُ في المدرسة المتربّعة على شاطىء الميناء خمسة وخمسين عامًا نعمْتُ، في مطلعها وقبل أن يغزونا الباطون، بالمرور في الشوارع المنسابة بين جنائن الليمون للوصول إلى الميناء مركز عملي، وفي الذهاب والإياب أنعشتني الرائحة الطيّبة التي اشتهرت بها طرابلس آنذاك.

ثمّ عهد إليّ المطوّب الذكر المثلّث الرحمة المطران إلياس قربان في أربعين منها، بين 1971 و2011، إدارةَ المدرسة. حاولت أن أبرّ بالمسؤوليّة ولم أهجر التعليم البتة، لأنّ إن كان لي ما أعتزّ به فبمهنة التعليم أعتزّ، وإن كان لي مِن معلّم ومدرّب فهم التلامذة الذين كنت ألقاهم وأحتكّ بهم كلّ يوم. وإن كان ثمّة ما أفخر به فبمحبّة الوجوه التي زاملتها أو علّمتها، وبقيَتْ كلّها على المحبّة الأولى.

وأثناء هذه الخبرة الطويلة عرفَتْ المدرسة محطّات عدّة سأتوقّف وأحكيها في كتاب خاصّ، بصدق وأمانة، والغاية أن نتعلّم من الظروف المتنوّعة، ونستفيد من النجاحات التي منّ اللَّه بها علينا، ومن الإخفاقات التي نتجت من الضعف في جبلّة البشر، أو من خلل في الإدارة، أو من تدخّلات معرقلة، أو من اهتزاز في الرؤية.

استدنَيْتُ، بعجالة، زمنًا عبر، واستحضرْتُ معلّمين وأحبّة قادوا الخطوات وتركوا في الكيان البصمات. هم أثّروا بتواضعهم وخفرهم، ورسموا دروبًا أنتجت، بمنّة من العليّ، بعض الثمار التي سعينا إليها بجدّ مستلهمين اللهَ المعلِّم الأوحد والموحي الأوّل الذي دلّنا إلى شعار لازمنا وهو «بالمحبّة نبني ونبرّ بالمدرسة التابعة للكنيسة»، فنردّد على الدوام مع الطوباوي أغسطينوس:

المسؤوليّة من دون محبّة تجعلك عديم الشفقة، العدل من دون محبّة يجعلك قاسيًا، الواجب من دون محبّة يجعلك عنيفًا، الحقيقة من دون محبّة تجعلك نقّادًا، الذكاء من دون محبّة يجعلك خبيثًا، الكرامة من دون محبّة تجعلك متكبّرًا، التملّك من دون محبّة يجعلك بخيلًا، الإيمان من دون محبّة يجعلك متعصّبًا، الحياة من دون محبّة لا قيمة لها. أحببْ واعملْ ما تشاء.

«إن صمتّ فاصمت بمحبّة، إن تكلّمتَ فتكلّم بمحبّة، إن صحّحتَ فصحِّحْ بمحبّة، إن غفرْتَ فاغفر بمحبّة، اجعل في قلبك جذر المحبّة، فمن هذا الجذر لن يأتيَ شيءٌ سيّئ».

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search