مجلة النور العدد الثالث – 2023
في أعمق مستويات الإيمان هو فعل (ثمّ هو عادة) في النفس، عبره تنضمّ الى المسيح. قد تكون هذه الحقيقة أكثر وضوحًا لو استخدمنا الكلمة اليونانيّة للنفس «بسيخي». يدفعنا اللجوء إلى هذا الاسم إلى التفكير بالإيمان بمصطلحات «سيكولوجيّة». للإيمان علاقة بعلم النفس، عبره، أنضمُّ أنا للمسيح من طريق تحوُّل سيكولوجيّ.
بسبب من التركيز الضروريّ على المحتوى الفكريّ والعقائديّ للإيمان، من السهل التغاضي عن التحوّل النفسيّ للشخص الذي يلتزم المسيح بأمانة. اعتبر دوم أنسغار فونييه، الإيمان كـ«رابط سيكولوجيّ» بين المسيح والنفس المؤمنة.
في الواقع، تتضمّن تجربة إيماني بحقّ: فكرة تشكُّل نفسي (نفسيّتي) وتحوّلها عبر علاقتها بالنفس البشريّة للإله-الإنسان، بالثقة والطاعة والامتنان، لأنّ هذه هي التعابير الوجوديّة عن الإيمان. لكن، هذا لا يعني أنّ الإيمان هو حالة شخصيّة بحتة. على العكس من ذلك، يشكّل الإيمان حالة علائقيّة أتّحدُ بها شخصيًّا بالمسيح. هي النعمة المحوِّلة التي تخلق علاقة الإيمان هذه. هي ليست مجرّد إعلان حقيقة قانونيّة. هي حقيقة نفسيّة (سيكولوجيّة)، لأنّها فعلٌ وتعوّدٌ، تُسلَّم عبره النفس للمسيح كي يقبض عليها ويستوعبها.
ماذا يفعل ايماني لي؟ إنّ اتّحاد نفسي بالمسيح يحوِّل منظوراتي ويصقل تصرّفاتي النفسيّة. بسبب من شركتي مع نفس المسيح، أبدأ أرى الأمور كما يراها المسيح. أتحوَّلُ داخليًّا بسبب تدخُّل المسيح الكريم. للمؤمن، لا يبقى الإيمان بالمسيح خارجيًّا. الإيمان أمر يعيش بداخلي. لأنّه فعل وعادة للنفس، الإيمان داخليّ للنفس. تتمّ ممارسته عبر مَلكات النفس، العقل والإرادة والخيال والذاكرة، كلّ هذه الأمور التي نسمّيها بالعادة مَلكات نَفسيّة.
بينما ينمو الإيمان عبر العمل باعتباره الدافع لقراراتي وخياراتي في الحياة، تتحوَّل نفسي به. نعم، وأكثر من ذلك «إنْ أحبَّني أحدٌ يَحفظْ كلامي ويُحبُّه أبي وإليه نأتي وعندهُ نَصنعُ منزلًا» (يوحنّا ١٤: ٢٣). بسبب من علاقة المسيح الجوهريّة والأيقونيّة بالآب، أنا أثق باللَّه وأُطيعه عبر ثقتي بالمسيح وإطاعته.
في هذا الصدد، يتحدّث الكتاب المقدّس عن «ختان» القلب، «لأنَّ اليهوديَّ في الظاهر ليسَ هو يهوديًّا»، يقول بولس، «ولا الخِتانُ الذي في الظاهر في اللحم خِتانًا. بل اليهوديُّ في الخفاء هو اليَهوديُّ وخِتانُ القلب بالروح» (رومية٢: ٢٨- ٢٩). كما يُغيّر الختان المادّيّ الجسد، كذلك الإيمان يُغيّر النفس. تُبرّرنا نعمة اللَّه بتغييرنا من داخل. هي، في الواقع، تُنتج أمرًا جديدًا داخل المؤمن.
«باطنيّة» الإيمان هذه، كانت موضوع نبوءة. ترتبط معالجتها الكتابيّة المبكرة باكتشاف مخطوط سفر التثنية (٦٢٢ قبل الميلاد). يتنبّأ سفر التثنية ويصف توراة داخليّة، إذا جاز التعبير، «شريعة القلب». لتقدير أهمّيّة هذا التأكيد، نحتاج فقط إلى مقابلة سفر التثنية مع الأسفار الأربعة الأخرى من الكتب الموسويّة الخمسة. في سفر التكوين، توجد كلمة «قلب» (ليف بالعبريّة) مرتين. في سفر الخروج، لا تستخدم أبدًا إلّا للحديث عن «قساوة قلب فرعون». في سفر اللاويّين نجد الكلمة ثلاث مرّات، وفي سفر العدد مرّة واحدة فقط.
ولكن بالوصول إلى سفر التثنية، تظهر كلمة «قلب» ٤٤ مرّة. يقدّم سفر التثنية «شريعة القلب»، الاتّحاد الداخليّ بين اللَّه والنفس البشريّة. هو أوّل سفر من الكتاب المقدّس يأمر بمحبّة اللَّه من كلّ القلب، «تُحبُّ الربَّ إلهكَ من كُلِّ قَلبك ومن كُلِّ نَفسك ومن كُلِّ قُوَّتك» (تثنية ٦: ٥). صارت «شريعة القلب» هذه موضوع اهتمام خاصّ في وقت لاحق في نبوءات إرميا وحزقيال، خلال الحقبة المظلمة من السبي البابليّ.
الآن، بما أنّ الإيمان داخليّ في قلبي ونفسي، فإنّ التبرير الإلهيّ الذي يتمّ قبوله بالإيمان هو أيضًا داخليّ في قلبي ونفسي. لهذا السبب، فقط عقيدة «النعمة الداخليّة» يمكن أن تتوافق مع عقيدة التبرير. بالنعمة الإلهيّة، التي أحصل عليها بالإيمان، أتبرّر داخليًّا أمام اللَّه. لا يُعلِن اللَّه برّي من أجل المسيح فحسب، بل يبرّرني باتّحادي بالمسيح.
لأنّ المؤمن يتطابق من داخل مع المسيح عبر الإيمـان، فـإن الإيمـانّ هـو مُحـوّلٌ داخــليّ. يُـشـبِّه توما الأكوينيّ «الإيمان الذي به يُبَرَّر الإنسان» بنور الشمس الذي يملأ الهواء. ويشبّهه عدد من الآباء الشـرقيّين بالنار التي تـحوِّل الحديد البارد بالكلّيّة. كما الشمس التي تستمرّ في بثّ نورها في الغلاف الجـويّ للأرض، تستـمـرّ النعمة الإلهيّة في بثّ لمعانها في نفس المؤمن. كما النار تسكن جوهر الحديد المصهور وتملأه، يملأ الإيمان النفس ويحوِّلها.