العدد الثالث - سنة 2023

07 - رعائيّات - وأقدّس نفسي من أجلهم ليكونوا هم أيضًا، مقدّسين في الحقّ (يوحنّا ١٧: ١٩) - غسّان الحاجّ عبيد - العدد 3 سنة 2023

 

مجلة النور العدد الثالث – 2023

 

 

وردت هذه العبارة (العنوان) في الصلاة الكهنوتيّة التي رفعها السيّد إلى أبيه السماويّ عندما أتت ساعة تسليمه إلى الصلب على يد يهوذا الغاشّ، وقد تَضَرّع فيها إليه من أجل تلاميذه، من أجل أن يحفظهم في الحقّ الذي ثَبَّتَهم هو فيه، وكأنّه بهذا يَرُدُّ الأمانة إلى صاحبها. إنّهم (أي التلاميذ) وَديعةُ الآب لدى الابن، وها الساعة قد أَتت ليردّ الابن إلى أبيه وديعته.

إنّ هذه العبارة تفتح، برأيي الباب واسعًا على موضوع «الرعاية الكهنوتيّة» أو، بصيغةٍ أُخرى، موضوع «الكاهن والرعيّة»، وهو الموضوع الذي أَنوي طَرقَه في هذه العُجالة.

إنّ الرّعاية، كما تُرشِدُنا إليها العبارة – العنوان، هي راعٍ يُقدّس ذاته ليقدّس الرعيّة. إنّها، إذًا، مسيرة تَقَدُّس فتقديس. هذا هو الأصل، والباقي فروع وتفاصيل.

ينتج من هذا أنّ الكهنوت ليس وظيفةً بالمعنى الدهري séculaire للمصطلَح، وإنْ يكُن في مهمّات الكاهن ما قد يدلّ، أحيانًا، على أنّها ذات وجه وظيفيّ، أو ذات طبيعة وظيفيّة. لا! بل إنّما الكهنوت رسالة، ورساليّته تكمُن في أنّ الكاهن يُقام من اللَّه بوضع يد الأسقف الذي يستنزل عليه نعمة الروح القدس، ليكون راعيًا للرعيّة التي عُهد إليه برعايتها. وهل معنى أن يكون راعيًا للرعيّة سوى أن يمهّد لها دُروب القداسة ويُسهّل لها مناهج الخلاص؟ أمّا هذا – وحَسب تعليم الأرشمندريت (جيلله) – فيتمّ «بكسر خبز الكلمة»، من جهة، ومن جهة ثانية «بكسر الخبز وسكب الخمر، وهما يعبّران عن ذبيحة جسد المسيح ودمه... وهذا يُشير إلى وجهَي الكهنوت الأساسيَّين: ارتباط الكاهن بكلمة اللَّه وارتباطه بذبيحة الصليب». غير أنّ «كاهن يسوع – ودائمًا حسب الأرشمندريت (جيلله) – لا يستطيع أن يُتمّم هذه الخدمة الكهنوتيّة المزدوجة بمعنى أن يكسر خبز الكلمة ويكسر خبز عشاء الربّ السرّيّ ويُثمر فيها، ما لم يركع، بادئ ذي بدء، مثل سيّده، عند أقدام الناس، في موقف تواضع وخدمة، ليغسل لهم أَرجُلَهم»(١) بهذين العنصرين مُجتمعَين (أي كسر خبز الكلمة وكسر خبز عشاء الربّ) يقدّس الكاهن الرعيّة، لكن، ليس قبل أن يتقدّس هو بهما أوّلًا، أي ليس قبل أن يذوق، بنفسه، خبرة الإنكسار أمام أبناء الرّعيّة في خدمة مباركة يرضى عنها يسوع. إذ كيف للرّعيّة أن تتقبّل من يد كاهنها القدسات (أي خبز الكلمة المكسور وخبز جسد الربّ المكسور) ما لم تكن هذه مجبولةً ببعض من انكساره هو، ببعض من قداسته؟؟

في سيامة أنطونيوس الصوريّ مطرانًا على أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما، خاطبه المطران جورج (خضر) مُوَجِّهًا ومُرشِدًا، قال: «إنّ نَسَبك يدلّ على أنّ عائلتك تَجيء من صور؛ أمّا أنتَ فتجيء من المسيح». وإنّما قال له هذا ليَذكر، على الدوام، أنّه، ولَئِن أُقيم من اللَّه راعيًا للناس في دُنياهم، إلّا أنّه لا يأتي منها، لكن من دنيا المسيح؛ وهذه هي دنيا المسيح: لا حَسَبٌ ولا نَسَب، لا جاهٌ ولا مال ولا شيء مثل ذلك، بل كلمةٌ مقدَّسةٌ ومقدِّسة، مع جسدٍ مكسورٍ ودَمٍ مُهَراق.

إذًا، ليست الرعاية تقنيةً ولا هي نِهاجة – وإن كان لا بدّ، أحيانًا، من هاتَين معًا، أو من إحداهما، لانتظام العمل الرعائيّ ونجاحه، فلا يُهملُ أَحدٌ من افتقاد ينتظره – لكنّها، وببساطة، مواكبة الناس في أحوالهم – لا سيّما المتعَبين منهم والذين أَثقَلَت عليهم الحياة أَحمالها – لتنقل إليهم نعمة الربّ يسوع المسيح ومحبّة اللَّه الآب وتعزيات الروح القدس. «تَعالَوا إليَّ جميعًا أيّها المرهَقُون والثّقيلةُ أحمالُهم، فإنّي أُريحُكم» (متّى 11 : 28). هذه يجب أن تكون رسالة الكنيسة، بل مهمّتَها، تجاه أبنائها (بل تجاه كلّ إنسان)، بوصفها حاملةً الخلاص الذي بيسوع المسيح وسلامه. فإذا لم يجد المؤمنون في كنيستهم السند والملجأ الأمين فإلى مَن تُراهم يلجؤُون؟ «ربِّ، إلى من نَذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟ (يوحنّا 6 : 68)، بهذه الكلمات أَجاب بطرس السيّد لمّا سأَل الاثني عشر «أَفتريدون أنتم أن تذهبوا مثل الذين ذهبوا وتَوَلَّوا» (يوحنّا 6 : 67).

إذًا، هكذا ترعى الكنيسة شعبها. ترعاه في أوضاعه كلّها؛ في أفراحه لتُضاعفها ولتُطعّمها بأطعومات من فرح الربّ، أي من ذاك الفرح الذي بالصليب قد أتى إلى كلّ العالم؛ وفي أحزانه لتخفّفها عنه، ولكي تقول له إنّ الربّ يسمح بها ليمتحن إيماننا ويُثبّتنا في محبّته، وإنّها، لا بُدّ، آيِلةٌ إلى فرح. عندما أبلغ السيّد تلاميذه بأنّه ذاهبٌ إلى الآب تَوَلّاهم الحزن؛ أمّا هو فلكي يُطمئنهم قال لهم: «الحقَّ الحقَّ أقول لكم... ستحزنون، ولكنّ حزنكم سيتبدّل فَرَحًا (يوحنّا 16 : 20). الكنيسة مَقام الفرح النازل علينا من قلب الثالوث مائدةً سماويّة طيّبة. وبعد؛

في 22 حزيران سنة 1972 صدر النظام الأساس الجديد للكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس. هذا جعل من الكاهن قائدًا في رعيّته بعدما كان، ولردحٍ من الزمن طويل، تابعًا لوجهاء الطائفة والمتنفّذين فيها، يَدين لهم بالولاء ويعمل بتوجيهاتهم. وتحت هذا العنوان «الكاهن القائد» صدرت افتتاحيّة العدد المزدوج 5 و6 من مجلّة النور لسنة 1972 بقلم شفيق حيدر، وقد جاء فيها: «... حَسْبُنا منها (أي من موادّ النظام الأساس لبطريركيّة أنطاكية و...) الدور الأصيل الذي يُعطيه هذا النظام للكاهن في كنيسة الرعيّة. يعود إلى الكاهن الدور الذي كان له في كنيسة المسيح. يعود ليظهر قائدًا لرعيّته، مسؤولًا عن خلاصها، يَسُوس أُمورَها كلَّها ويرئِس هيئاتها. ما عاد الكاهن الأنطاكيّ، في نظامنا الجديد، مُوَظَّفًا عند النافذين من أبناء رعيّته. لقد جعله الاهتراء الأنطاكيّ خادمًا للأسرار فقط، يُقيمها ويَصمت، ولا دورَ قياديًّا له في الرعيّة. أمّا اليوم فقد انقلبت الآية في نصوص النظام الجديد واستقامت الأمور: الكاهن يَسوسُ الرعيّة إلى جانب خدمته الأسرار...».

إذًا، النظام الأساس للكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس يُولي كاهن الرعيّة – كما بدا واضحًا – صلاحيّة قيادة رعيّته. هذا صحيح. ولكن لم يَغِب، يومَها، عن ذهن المشرّع أنّ هذه الصلاحيّة ليست سلطانًا بالمعنى الزمنيّ – الدهرّي للمصطلح؛ إذ لا سُلطانَ للكاهن غير الحبّ. إنّه بالحبّ يرعى رعيّته؛ بهذا الحبّ الذي منه طول الأناة، ورحابة الصدر، والصبر على المكاره، وإماتة النفس، وتحمُّل الصدمات التي تأتيه من حيث يتوقّع، وغالبًا من حيث لا يتوقّع. فالناس، في غالبيّتهم الساحقة، عقول وأمزجة، بل أمزجة قبل أن يكونوا عقولًا، وعلى الكاهن أن يرعاهم كما هم، أن يتقبّلهم كما هم، بعقولهم المرنة حينًا والمتصلّبة أحيانًا وأَمزجتهم المتقلّبة، أي بكلّ ما هم عليه من المتناقضات. مطلوبٌ من الكاهن أن يعرف كيف يتدبّر أمره في هذه كلّها، ولكن بكثير من حكمة الحيّات وكثير من وداعة الحملان «لئلّا يُبطَلَ صليب المسيح» (1كورنثوس 1 : 17). أمّا هو فهذه هي جلجلته، وهذا هو صليبه. وسيجد نفسه مُعلَّقًا على صليبه وحيدًا، لا يؤازره إلّا قلّة عزيزة من أحبّة السيّد؛ وهذا نادرًا ما يحصل. هذا كان نصيب سيّده من قبله، و«ليس عبد أَعظم من سيّده...» (يوحنّا 13 : 16).

بالحبّ، إذًا، يرعى الكاهن رعيّته، وعلى صخرة هذا الحبّ يُثبّتها، ومن هذا الحبّ – الذي هو، برأيي، المشروع الرعائيّ الأوحد - تنبثق الأفكار الخلّاقة التي تنقدح بها عقول أبناء الرعيّة وملكاتهم ومواهبهم، ويترجمها مجلس الرعيّة مشاريع. وإنّما هذا لأنّ الكنيسة، حتّى بوجهها البشريّ، ليست مجرّد مؤسّسة دنيويّة. صحيح أنّ فيها من هذه الدنيا ما فيها؛ إلّا أنّها، في الأصل وفي كُنهها اللاهوتيّ، انسكاب نَعمَويّ سماويّ. إنّها مائدة سماويّة نازلة علينا من فوق، من لَدُن أبي الأنوار، حبًّا وافتقادًا ورأفات، ويَسوسُها منطق السماء لا منطق الأرض. وبمنطق السماء هذا يسُوس الكاهن رعيّته عالمًا أنّها خاصّة المسيح لا خاصّته هو، وأنّه عليها وكيل. هي وكالة اللَّه بين يديه وفي عنقه، وعن هذه الوكالة سوف يُسأَل يوم الدين.

أَفتح، هنا، قوسًا لأستطرد – ولكن دائمًا في المقام عـيـنـه – وأقـول: نحن، عندما ننسب الرعيّة إلى كـاهـنـها (كأن نقول «رعيّة الكاهن الفلانيّ»)، أو عندما ننسب الكـاهن إلى رعيّته (كأَنْ نقول «كاهن الرعيّة الفـلانـيّـة»)، إنّـمـا نعتمـد هـذه الـصـيغـة للتفاهم فقط، أي لنفهم، بشريًّا، على أيّة رعيّة نتكلّم أو على أيّ كاهن. غير أنّ هذه الصيغة ليست من القاعدة بشيء، إذِ القاعدة أنّ الرعيّة – كلّ رعيّة – هي رعيّة المسيح، وأنّ الكـاهـن، في رعيّته، هو كاهن المسيح، وهو مـقـام مـن اللَّه لـخـدمـة المسـيـح فيها، وليس وحده بل إنّما بالتشارك مع أبناء الرعيّة والتكامل معهم.

هذا التوصيف لدور الكاهن في رعيّته ولطبيعة علاقته بها مهمّ جدًّا، وتاليًا ضروريّ جدًّا، لأنّه يكشف بطلان كلّ سلوك – إن من قِبَل الكاهن أو من قِبَل الرعيّة – يجعل من الرعيّة مُنعَزَلًا (غيتّو)، بحيث يتعامل الكاهن مع رعيّته على أنّها قطيعه هو لا قطيع المسيح، تخصّه هو ولا تخصّ المسيح. ويؤسفني القول إنّ هذا السلوك الشاذّ بات نافرًا في أوساطنا ومألوفًا، هنا وثمّة، وفي غير رعيّة.

كلّ رعيّة هي خاصّة المسيح. هذه هي القاعدة، وهي تجد مصدرها وسندها الواضحين في ما قاله السـيّد لبـطـرس عـندما عهد إليه بخرافه لرعايتها. سأل السيّد بطرس ثلاثًا: «يا بطرس أتحبّني؟»، وكـان بطـرس، فـي كـلّ مـرّة، يُجـيـبـه: «نعم يا ربّ، أنتَ تعلم أنّي أحبّك»؛ فقال له يسوع: «إِرع خرافي» (يوحنّا 21 : 15- 17). لم يقل السيّد لبطرس: انتبه إلى خرافك وأحسن رعايتها؛ لا؛ بل قال له: «إِرع خرافي». فإذا كانت هذه هي القاعدة – وهـي كذلك – فينتج من هذا أنّ كلّ مخالفة لها تعتبر شـواذًا، بـل خـروجًا فـاضحًا على فكر المسيح ونهجه.

نحن، مع كاهننا، أتباع يسوع المسيح، ومع كاهننا نسير إليه. وفي الطريق إليه قد يضلّ أحدنا (الرعيّة أو الكاهن) فيكون على الآخر أن يردّه عن ضلاله. المهمّ ألّا نضلّ الهدف لئلّا نضلّ الطريق. المهمّ ألّا نضيّع البوصلة، وهي كلام المسيح نفسه. إنّها هي التي ترشدنا، كما نجم الميلاد، إلى يسوع. إنّه، في كلّ رعاية وكلّ رعيّة، الألف والياء، المنطلق والمبتغى. والسلام.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search