العدد الثاني - سنة 2023

05 – خاطرة: إلهي أقوى من إلهك! / الأب نعمة (صليبا) - العدد 2 سنة 2023

 

مجلة النور العدد الثاني – 2023

 

تحمل الحياة الكثير من الأسباب التي يمكن اعتبارها كمسبّب لسوء فهْم الآخر. ولكن هل يحمل الكتاب المقدّس هذه المسبّبات؟

إنّ نظريّة «سوء الفهم» يحتجّ بها عادة العالم الخارجيّ، الذي لا يفهم من هم داخل دائرة الحياة المسيحيّة، كما يمكن أن تطال هذه النظريّة دوائر أصغر، مثل عدم فهم المسيحيّين عمومًا من يتبعون مذهبًا محدّدًا، أو نمط حياةٍ معلّبًا. 

ولكن ماذا عن سوء فهم الملتزمين أو المؤمنين لمن هم خارج هذه الدائرة؟ إنّه خطر يمكن الوقوع فيه أيضًا، وهذا ما سأتناوله هنا، لأنّ له نتائج مغايرة على أرض الواقع وعلى مستويات مختلفة، كتحديد مواقع الناس ومدى قربهم من اللَّه أو بعدهم مثلًا، وهل هم مخلّصون، أم أنّ الفردوس هو لفئةٍ محدّدة...

قد نجد عبر إطارٍ أخلاقيّ، أنّ المحرّك المحوريّ لعمليّة سوء فهم الآخر، يكمن في الوقوع في التكبّر الروحيّ أي الاستعلاء على الناس، بدافع الحصول على نشوةٍ روحيّة أو اختبارٍ نسكيّ قاسٍ. فإنّ التركيز على الذات (يعقوب 4: 1)، وضرورة المدافعة عن تلك الذات، والتمركز حول الأنا الضعيفة، تنتج أمراضًا روحيّة، كالشعور بأنّي مطالبٌ بالدفاع عن اللَّه، أو بأنّ مصير المشيئة الإلهيّة يقع على عاتقي الشخصيّ، أو أنّ الوجود التاريخيّ للمسيحيّة مهدّد، ويقع عليّ عبء حضور البشارة في العالم.

الرشْد الروحيّ (1كورنثوس 14: 20)، والاهتمام بالخـشبة الموجـودة فـي عـيني، يبـعدانني عن مثل هذا الفخّ، في حين أنّ عدم الانتباه لمثل هذه التصرّفات سيؤدّي حتمًا إلى سوء استعمال السلطة التي منحني إيّاها اللَّه على خليقته وعلى أخي الإنسان أيضًا.

أمّا نظريّة «إلهي أقوى من إلهك»، فنجد أنّ جذورها ضاربة في التاريخ الخلاصيّ، وخصوصًا في كتـب البداءة في مرحـلة تكوين الهويّة الدينيّة الخاصّة، فاللَّه هو إله الآلهة، وربّ الأرباب، وهو الكلّيّ القدرة والعليّ (تثنية الاشتراع 10: 17). ويحاكي هذا التعظيم صور الصراعات بين الممالك، مثل انتصار شعبٍ على شعبٍ آخر، ما يؤدّي بطبيعة الحال، إلى نظريّةٍ أخرى مشهورة جدًّا، هي نظريّة شعب اللَّه المختار أو الأمّة المقدّسة (1 بطرس 2: 9)، وهذه الأمّة قليلة العدد ومصطفاة (متّى 7: 13- 14) واللَّه يعـطيها قـوّةً خارقة لمجرّد القوّة، كالحديث عن معجزات خارقة الطبيعة، لا تحمل أيّ رسالة أو عبرة روحيّة. إنّ الأمثلة على نظريّة الاصطفاء الإلهيّ في الذاكرة الدينيّة كثيرة. ويمكن الوقوع في هذه الإشكاليّة بسهولة، خصوصًا عندما نستعمل مصطلحات يوميّة خاصّة جدًّا، كالتحيّة، والسلام، ونوْع الطعام، واللباس الذي يجب استعماله، مضافًا اليها آليّة تعليب هذه الأفكار والحديث عن مشاكل الحياة المعقدّة بحلولٍ تحمل طابع الشموليّة، كالحديث عن ضعفٍ في الصلاة أو عدم الاحتكام الى أبٍ روحيٍّ محدّد.

فاللَّه الذي خلق جميع الكائنات هو الذي يشرق شمسه على الأخيار والطالحين (متّى 5 :45)؛ وسفر يـونان النبيّ مـثـال واضح عن معاندة رجل اللَّه للإرادة الإلهيّة والتي ظهرت بصورة غير مألوفة تنادي بضـرورة خلاص الجميع، اللَّه هو الأب الرحيـم لجميـع أبنـائـه، والذي ينتظر عودة الجميع من دون تمييز (لوقا 15)، فلا يأخذ الأخيار باكرًا ويترك الفاسقين يتمتّعون بهذه الحياة؛ واللَّه هو الجوّاد والسخيّ في حبّه (يوحنّا 3: 16) فقد حمل خطايانا على الصليب وقت كنّا بعْد غير طاهرين (رومية 5: 8). وقد تخطّى صكّ الفغران الذي منحه يسوع المصلوب، اليهود والرومان الذين صلبوه من دون أن يدروا ماذا يفعلون، ليشمل برحمته البشريّة برمّتها. وصـورة اللَّه الخادم، الذي يجـوب الطـرقـات بحثًا عـن كلّ ملقًى «بين حيٍّ أو ميت» ليطبّبه ويشفيه، إنّما هي برنامج عمل يحفظنا من كلّ تشويهٍ لحكمة اللَّه أو انزلاقٍ في تجزئة القصد الإلهيّ. اللَّه أقوى في حبّه لي من حبّي وفهمي لذاتي.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search