العدد الثاني - سنة 2023

04 - دراسة كتابيّة: محبّة الأعداء / الأب سمعان (أبو حيدر) - العدد 2 سنة 2023

مجلة النور العدد الثاني – 2023

 

في العظة «على السهل» في إنجيل لوقا (العظة على الجبل عند متّى)، يطرح الربّ يسوع ثلاثة «أسئلة مثيرة» مصمّمة لتحفيزنا: «إن أحببتم الذين يحبّونكم فأيّة منّة لكم؟»، و«إذا أحسنتم إلى الذين يحسنون إليكم فأيّة منّة لكم؟»، و«إن أقرضتم الذين ترجون أن تستوفوا منهم فأيّة منّة لكم؟» (٦: ٣٢، ٣٣، ٣٤). هذه، تحفّز ثلاثة مواضيع مثيرة للانتباه.

نتساءل أوّلًا، ما الذي يتوقّعه اللَّه منّا؟ يستوقفنا تكرار اللازمة «أيّة منّة لكم؟». الكلمة «خاريس» المعرّبة هنا «منّة» (أو أي فضْل لكم)، غالبًا ما تعرّب «نعمة»، وقد تعني أيضًا «الشكران» أو «الجاذبيّة». في سياق سؤال الربّ، تعني «خاريس» شيئًا من هذا القبيل: لِمَ قد «ينبهر» اللَّه بك لو أنت «بادلت» المحبّة من يحبّك؟ لأنّك عندها، بالحقيقة تحبّ نفسك، ولا شيء «استثنائيّ» بهذا. قد يكون اللَّه أكثر «انبهارًا» لو أنت أحببت من سيبغضك بالفعل.

أولاً، لِمَ قد يجدك اللَّه «جذّابًا»، أفقط لأنّك نجحت في ردّ الجميل؟ ما المميّز بعين اللَّه إن أنت أحسنت أو أقرضت منْ رجوت الحصول منهم على مقابل ما؟ هذا يسمّى بالحقيقة «استثمارًا»، أوليست هذه مجرّد أعمال و«معاملات»؟

الافتراض الأساس في هذه التساؤلات كلّها، هو أنّ اللَّه يتوقّع منّا ألّا نكون «بشرًا عاديّين». في العظة على الجبل، قابل يسوع بين شريعته وبين ناموس موسى: «سمعتم أنّه قيل للقدماء لا تقتل … لا تزْن … وأمّا أنا فأقول لكمْ» أحبّوا أعداءكم، ولا يكن عندكم أفكار شهوانيّة … هي شريعة تستهدف القلب أوّلًا وتبتغي أن يصير البشر أناسًا جددًا في العمق.

أتباع الناصريّ، الذين يتجلّى انتصار المسيح ونعمته فيهم، عليهم أن يكونوا مسيحيّين «متلألئين بالفضائل» لا مجرّد «عاديّين». الأمر المحزن أنّنا بتنا في الغالب «لا نور فينا». هل يمكن تمييزنا من نقاوة تصرّفاتنا أو طهارة أحاديثنا وخلوّها من كلّ لغة بذيئة أو تجديف أو نطق باسم الربّ باطلًا؟ عندما يلتقي العالم بمسيحيّ، يحقّ للعالم أن يتوقّع «شخصًا استثنائيًّا».

ثانيًا، ما الشكل الذي يتّخذه توقّع الربّ هذا؟ أوصى سفر الأمثال في العهد القديم، «إن جاع عدوّك فاطعمه خبزًا وإن عطش فاسْقه ماءً فإنّك تجْمع جمرًا على رأْسه» (٢٥: ٢١، ٢٢)، هي «حكمة عمليّة» ببساطة العهد القديم في ترقّب الإنجيل. لكنّ يسوع يريدك أن تشترط أن يبطّل العدو عداوته لو أنت أطعمته في جوعه. يسوع يقول لك «لا تقلق ما لم يصر صديقًا لك، لأنّ هدفك أن تصبح صديقًا للَّه.

أنت تشبّه باللَّه الذي «يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين»! ما الشكل الذي يتّخذه توقّع اللَّه؟ يتّخذ شكل الاقتداء باللَّه نفسه، بلطف اللَّه ورحمته، حتّى تجاه من يكرهوننا ويناصبونا العداوة «تعلّموا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب» (متّى ١١: ٢٩).

ليست محبّة الأعداء أمرًا يأتينا «بشكل طبيعيّ». تحفيز الفكر الأخلاقيّ هو الغرض من سؤال الربّ يسوع. الافتراض الساذج أنّ مجرّد اتّباع المسيح يأتي «طبيعيًّا» هو عدم إدراك عمق الخطيئة واستفحالها في الطبيعة البشريّة. بدون محبّة الأعداء، لن نكون أصدقاء اللَّه. وما لم نكن أصدقاء اللَّه، فلا توجد أيّ صداقة أخرى لها أيّة أهمّيّة.

ثالثًا، ما النموذج في محبّة الأعداء؟ أكثر من سائر الأناجيل، يزخر إنجيل لوقا بأمثلة حول هذا الموضوع. أسعف السامريّ الشفوق العدوّ الجريح «لوجه اللَّه»، لم يتوقّع لا مالًا ولا عرفانًا بالجميل مقابل محبّته. جلّ ما أراده السامريّ هو أن يكون «صديقًا للَّه». يعود لوقا إلى نموذج المحبّة هذا، بشكل أساس في عرضه صلب المسيح. ينقل إلينا صلاة يسوع المعلّق على الصليب من أجل «أعدائه» وغفرانه لهم. وينقل إلينا شهادة إستفانوس الذي مات مصلّيًا «يا ربّ لا تقمْ لهمْ هذه الخطيئة» (أعمال٧: ٦٠).

في كلّ حال، تتعلّق محبّة الأعداء بالصليب. تضعنا محبّة الأعداء وجهًا بوجه مع الصليب. نحن لا نحبّ الأعداء في سبيل «الشعور بالرضى» عن الذات، هذا عينه حبّ للذات! يستحيل فصل المسيح عن الصليب. لم يكن المسيح مصلحًا اجتماعيًّا. لا يمكن فصل تعاليمه عن صليبه. هذا الارتباط بالصليب ضروريّ للغاية، وإلّا فإنّ محبّة الأعداء تصير مجرّد شكل آخر من أشكال حبّ الذات.

لذلك، يطلب يسوع أن نحبّ أعداءنا «غير مؤمّلين شيئًا» بل مقتدين به فقط. هذا لا يعني أنّ الأعداء سوف يقدّرون كونهم محبوبين، على العكس تمامًا، لا يتحمّل أعداء اللَّه أن يكونوا محبوبين. محبّة الأعداء قد لا تفيدهم ولو بشكل طفيف، نحن لا نفعل ذلك لأسباب إنسانيّة. محبّة الأعداء في الواقع، قد تجعلهم في بعض الأحيان أسوأ! هذا يشهد عليه القتل والتنكيل الشديدين بالمرسلين والمساعدين الاجتماعيّين المسيحيّين جزاء محبّتهم في كلّ أنحاء العالم.

تتّخذ محبّة الأعداء نموذج قلب اللَّه المكسور نفسه عندما عاين ابنه مصلوبًا من أجل خلاصنا. يوم انكسر فيه قلب اللَّه وانفطر حبًّا بنا. هذا اتّخده القدّيس نيقولاي فيليميروفيتش في صلاته «من أجل الأعداء»، يقول «بارك أعدائي يا ربّ ولا تلعنهم فأباركهم أنا أيضًا. الأعداء قادوني إلى عناقك أكثر ممّا فعل أصدقائي. أصدقائي ربطوني بالأرض، فيما أعدائي حلّوني من الأرض وبعثروا كلّ مطامحي الدنيويّة!».

المحبّة، حتّى محبّة الأعداء، ليست وسيلة لشيء آخر. المحبّة هي الغاية، الهدف، لأنّها تجعلنا مثل اللَّه. على الصليب، لم يمت يسوع من أجل المختارين، هذه بدعة. مات من أجل الجميع، حتّى من أجل من هم في الجحيم. وتحمّل الآلام حتّى عن الملعونين. سكب يسوع دمه كما يسكب الآب السماويّ المطر على الأبرار والظالمين.

محبّة الأعداء مشروع مكلف للغاية، وهذا ما نؤمن بأنّ يسوع أراده في أسئلته الثلاثة.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search