مجلة النور العدد الثاني – 2023
كنت في ريعان العمر ومطلع الشباب لـمّا انتقلَتْ عنّا إلى الأخدار العلويّة أرملةٌ تربطني بها نسابة. اشترك في صلاة الجنّاز آنذاك، في كاتدرائيّة طرابلس، الخوري جورج خضر يوم كان خادمًا لرعيّة الميناء. وفي نهاية الصلاة اعتلى قدسه منبر الوعظ ولفظ تأبينًا معلّمًا للمناسبة، عدّد فيه خصال الراقدة وتوقّف عند محافظتها على ديمومة زواجها اذ لم يخطر على بالها التفكير بزيجة ثانية. رأى ذلك فضيلةً سجّلها في كلامه عليها، وسلوكًا ينمّ عن إيمان أصيل بأحديّة الزواج وديمومته إلى الأبد. وهذا ما يختزنه ضمير الكنيسة ويفصح عنه تعليمها، وتعبّر عنه القوانين والطقوس.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المطران جورج (خضر) بدأ يعظ في المعابد قبل شرطونيّته. وكان في عظاته يطرح التعاليم اللاهوتيّة العميقة، ويطلق المواقف النهضويّة بلسان عربيّ مبين. الأمر الذي حوّل سامعيه المصلّين قومًا عارفين قصد اللَّه، وواعين الإيمان الذي به يدينون. وما زالت رعيّة الميناء مع تلامذته شاهدين على ذلك.
وبالعودة إلى سرّ الزواج المقدّس الذي نعتبر فيه أنّ ارتباط الرجل بالمرأة إنّما هو كارتباط المسيح بالكنيسة، وارتباط المسيح بالكنيسة أبديّ لا نهاية له وهو ليس وليد ظرف. هو سرّ إلهيّ قائم على تدبير اللَّه منذ الأزل. ألا يرتكز سرّ اتّحاد الاثنين إلى واحد، في الزواج المقدّس، على المحبّة؟ والرسول يوحنّا الحبيب، لـمّا عرّف اللَّه قال «إنّه المحبّة، ومَن لا يحبّ لم يعرف اللَّه، لأنّ اللَّه محبّة» (1يوحنّا4: 8). فالمعادلة الكتابيّة بسيطة للغاية: اللَّه يبقى إلى الأبد، إذًا المحبّة أبديّة، والزواج المبنيّ على الأبديّ، مؤبّد أيضًا ولا يبطل، «فالذي جمعه اللَّه لا يفرّقه إنسان» (متّى 19: 6).
من هنا يتساءل المرء: كيف يحقّ للأرمل أو الأرملة (ما لم تكن خوريّة...) أن تباركهما الكنيسة المقدّسة في زيجة ثانية؟ وهنا ثمّة لجوء إلى تدبير يأخذ بالاعتبار ضعف الجبلّة البشريّة. هنا تساير الكنيسة البشر في ضعفهم وتسمح بإقامة إكليل للأرمل أو الأرملة، ولكن تمتنع كلّيًّا عن إكليل الأرملين، وتستبدله بخدمة زواج ثانٍ تقوم على الاسترحام، وتحثّ على التوبة.
خدمة العربون والإكليل وخدمة الزواج الثاني
وبالعودة إلى خدمة الزيجة في صلاتي العربون والإكليل والصلاتان تؤلّفان خدمة سرّ واحد أي «سرّ الزيجة» نقرأ في الأفخولوجي الكبير: «الزيجة سرّ عظيم (أفسس5: 32) وذلك بأنّ الرجل والمرأة يتّحدان بها فيصيران جسدًا واحدًا على مثال اتّحاد المسيح بكنيسته»(١).
وثمّة ملاحظة تعكس موقف ضمير الكنيسة من الزيجة الثانية، وتشدّدها على أبديّة سرّ الزواج، وتقول هذه الملاحظة: «واعلم أنّ ترتيب سرّ الزيجة يجري على العروسين إذا كانا كلاهما عازبين، أو أحدهما أرمل والآخر أعزب. وأمّا إذا كانا كلاهما أرملين فحينئذٍ يصير منحهما سرّ الزيجة بموجب ترتيب آخر يسمّى «ترتيب صلاة الزواج الثاني»(٢).
إذا أقمنا موازنة بين خدمة الإكليل في الزواج الأوّل وخدمة الزواج الثاني لأرملين نلاحظ أنّ صيغة الطلبة للعروسين في الزواج الثاني تتغيّر: في خدمة الإكليل العاديّة نطلب «من أجل عبداللَّه (فلان) وأمة اللَّه (فلانة) اللذَين يخطبان أحدهما الآخر وخلاصهما...». أمّا في صلاة الزواج الثاني فنطلب من «أجل عبدَي اللَّه (فلان وفلانة) وسترهما ومعيشتهما معًا باللَّه...».
وثمّة طلبات نعدّدها في خدمة الإكليل العاديّة لكنّها تغيب كلّيًّا في خدمة الزواج الثاني، ومثالًا على ذلك أذكر: «من أجل أن يُمنحا أولادًا لخلافة الجنس وكلّ ما يطلبانه للخلاص».
أفاشين الاسترحام
وفي خدمة الزواج الثاني يتلو خادم السرّ، بعد «يُعربَن عبداللَّه...» إفشين استرحام نقول فيه: «...اغفر خطايا، وتجاوز عن سيّئات عبديك هذين داعيًا إيّاهما إلى التوبة، مانحًا إيّاهما مسامحة زلّاتهما وغفران خطاياهما والصفح عن ذنوبهما الطوعيّة والكرهيّة. أيّها الجابل والمبدع والعارف ضعف الطبيعة البشريّة، يا مَن غفرتَ لراحاب الزانية وقبلت توبة العشّار لا تذكر خطايا جهلنا منذ شبابنا... أنت أيّها السيّد تقبّل عبدَيك (فلانا وفلانة) وأتمّ اتّحادهما بمحبّة أحدهما الآخر. وامنحهما رجعة العشّار ودموع الزانية واعتراف اللّص لكي يعملا وصاياك بتوبة من كلّ قلبيهما باتّفاق وسلام فيستحقّا ملكوتك السماويّ...».
وفي إفشين ثانٍ نقول: «...اغفر آثام عبديك هذين لأنّهما إذ لم يستطيعا احتمال حرّ النهار ، وتحرّق الجسد، قد اجتمعا إلى شركة زواج ثانية حسبما شرّعت بواسطة إنائك المصطفى بولس الرسول وقلتَ من أجلنا نحن الأذلّاء: إنّ التزوّج بحسب ناموس الربّ خيرٌ من التحرّق. فأنت بما أنّك صالح ومحبّ للبشر ارحم واغفر واصفح واترك وأغضِ عن خطايانا، لأنّك أنت الذي حملت أمراضنا على منكبيك... لأنّك أنت هو إله التائبين ولك نرسل المجد...».
التعليم المستقيم
أرى أنّه من الضروريّ أن يعمّ التعليم القويم الجماعة المؤمنة، وألّا يغيب عنها، ليكون سلوك الزواج الأحد هو السلوك المسيحيّ الأصيل رغم ما يتأتّى من موت أحد الشريكين، ورغم تساهلٍ أبدته الكنيسةُ عبر ترتيباتها. رعتْ كأمّ أبناءها في ضعفهم وسقوطهم وترعاهم، وتتفهّم بشريّتهم وتساعدهم دائمًا على توبة نصوح تعيدهم إلى الجبلّة الأولى. المهمّ أن نبقى على قناعتنا بأنّ المحبّة لا ينهيها الموت لأنّه «مَن سيفصلنا عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم خطر أم سيف؟» (رومية8: 35).