مجلة النور العدد الثاني – 2023
لأنّ اللَّه معنا... ما هي أبعاد هذه الجملة التي نردّدها على مدار ١٥٪ من أيّام السنة؟
أنطلق من خبرة شخصيّة ومن عراك خاضه من يكتب هذه الحروف.
من الأمور التي واجهتها في المرحلة المتوسّطة من حياتنا «الافتراضيّة» ما نسمّيها أزمة منتصف العمر، أو الغابة السوداء وغير ذلك من التسميات المتعدّدة التي أطلقت على هذه الفجوة. وبالتوصيف هي المرحلة التي نقع فيها بسبب تلك الدائرة التي نتقوقع فيها وهي دائرة الراحة. بالطبع هذه الدائرة هي الأكثر أمانًا، إلّا أنّها محدودة وذات حدود واضحة لا نتعدّاها ولا نتجاوزها. الرغبة في الخروج منها بحاجة إلى منهجيّة متسلّحة بالإيمان والقوّة.
الخطوة الأولى هي الوثب باتّجاه دائرة الخوف بكلّ ما تحمل من زعزعة للثقة بالنفس وتخوّف من كلام المحيط، لكنّ اللَّه معنا. ثمّ يقتضي الحال أن نخرج من هذه الدائرة باتّجاه دائرة كبرى وهي التعلّم، بوجود مدرب ودورات ووسائل تواصل. تكمن الغاية في اكتساب مهارة وحرفة في التعاطي والمواجهة والقيادة، ولأنّ اللَّه معنا سنصل إلى الدائرة المرجوّة وهي الراحة الكبرى. حيث ندنو من مكان أفضل سيسمح لنا بالتحرّك ضمن حدود كبرى ومدّ جسور وعلاقات تنمو وتنمّي حياتنا وأسرتنا.
في وقت ما قرّرت الذهاب إلى أحد الأديار. بمعيار التعافي النفسيّ، الدير هو مشفى أو منتجع طبّيّ. وأنّ من يثقون بأنّ «اللَّه معنا» يجدون أنّ الدير مشفى اعتمد بماء الحياة، أطبّاؤه أناس أحبّوا اللَّه ولهم سلوكهم ونهجهم في التعافي. كان النظام يقتضي كوب عصير وكسرة من الخبز صباحًا وكوب عصير مساءً. وبعد أسبوعين صارت التفاحة لها طعم واللبن له طعم وكلّ طعام له قيمته وطعمه. عاد الجسد بعمليّة إعادة الإقلاع تلك لحالة التذوّق الفطريّة وإعطاء كلّ شيء في الحياة قيمته وتثمين فائدته.
فـي هـذا المكان تعلّمت أنّه من المهمّ جدًّا أن أبتعـد عـن وسـائل التواصل الاجتماعيّ بما تحويه مـن لذّة متابـعة الإشـعـارات وغير ذلك ممّا يغذّي غدّة «الإدمان». هنا نتلمّس راحة وتعافيًا لتركيبتنا النفسيّة.
أذكر حين كنت أجلس قرب بوّابة الدير أو الجرسيّة في قمّة الكنيسة، أشاهد الدنيا وكأنّها راحة كفّ. حينها فقط أدركت أنّني نقطة متناهية إلى درجة الإهمال. فهمت أنّ ثمّة بصمة يجب أن أتركها. هذا كلّه يبدأ حين أتجرّد من اليأس أوّلًا. واليأس هنا هو حالة السجن والشعور المتجدّد بالفشل.
هل سألتم نفسكم يومًا كم تقدرون على أن تجلسوا مع أنفسكم بعيدًا عن المؤثّرات لبلوغ الهدوء والسلام؟ هل ملكتم القوّة لتحديد المشكلة التي أنتم فيها وتباشرون بالبحث عن مسبّباتها؟
حين لا نثمّن آية «لأنّ اللَّه معنا» سنقع في نفق الخلل النفسيّ المؤلّف من ثلاثة سراديب:
السرداب الأوّل حزننا على ما مضى، والثاني قلقنا من المستقبل، والثالث مللنا في الحاضر. هذه السراديب مضاءة بنوع من الإنارة ويُعرف «الادمان».
الإدمان، بأشكاله المتعدّدة، يعمي البصر والبصيرة من المخدّرات وكلّ الأفلام الإباحيّة وألعاب الميسر والخمر. أيّ عادة تتملّكك تمسي إدمانًا، وطبعا نحن نملك من الوعي ما يجعلنا نميّز مفهوم العادة ومعنى التملّك المناقض للاستسلام. الطعام عادة ضروريّة تقف قيمتها الحياتيّة على اعتاب الإدمان وأفقها التسليم بضرورة الطعام لاستمرار عمل الجسد البيولوجيّ، الجنس حاجة للنموّ وللاستمراريّة وللتكاثر وغريزة من اللَّه. قرار في مخدع مقدّس يُصار فيه الاثنان واحدًا بفعل الروح القدس فيُميرن العادة بميرون الحبّ المبارك جاعلًا من الجنس زواجًا لا يُفرّقه إنسان، ضابطًا بذلك حرارة الجسد وإيقاع الروح فنسلّم بالحاجة إليها ولا نستسلم لحاجتها لنا كفخّ من فخاخ الدنيا يحول دون خروجنا من نفق السراديب الثلاثة.
أذكر حينها راهبًا جليلًا تسامر معي في الطريق على أطراف الدير. قال لي إنّ مفهوم الإدمان هو هروب من مجابهة سقطات الماضي، وقلق دائم من المستقبل وهذا القلق يلغي التخطيط الواعي للمستقبل، وانغماس بلذّة ما في الحاضر، وهذا الانغماس ببعده الأخير هو إدمان. قال لي أحدهم يومًا «الحكيم يخطّط ولا يقلق»، وتاليًا التخطيط يلغي القلق.
ولأنّ «اللَّه معنا»، في اليوم الرابع عشر أيقنت أنّ ثمّة عادات يمكنني أن أتغلّب عليها، وهناك عادات تبقى سنين وسنين ولا أقوى على الانتصار عليها، إلّا أنّ وجود «اللَّه معنا» سيجعل يوم الانتصار يومًا موجودًا وسيأتي هذا اليوم. سننظره بعيني يسوع، الطبيب فاحص الكلى والقلوب. موسى منذ آلاف السنين خاف حين واجه فرعون، حمل خوف أمّة كاملة وعارك سنين بمظلّة يسوع ليكتسب المهارة في التعاطي والقوّة والقدرة. موسى تجاوز خلله النفسيّ وخوفه وقلقه واجتاز بمعونة يسوع البحر شاقًّا إيّاه بعصى «اللَّه معنا». استغرق الأمر سنين ليدرك أنّ مهـارة شقّ البحر والقوّة في العبور لا تأتيان إلّا بمعونة يسوع.
في الليلة الأخيرة في الدير، دخلت الكنيسة المظلمة فأيقنت حينها أنّ الوثب من دائرة الخوف باتّجاه التعلّم لا تتمّ إلّا بمقاعد الكنيسة الصامتة المتنصبة منذ ألفي عام، وأمام أيقونة مُضاءة بقنديل بسيط بدّد أنوار الإدمان في سراديب الماضي والمستقبل والحاضر. أغمضت عينيّ ومرّ شريط حياتي بكلّ متاهاته وعثراته. صرت مثل المختلّين أرفـع يديّ وألامس الـهـواء لأبعد هـذا أو تـلك. لأرمي من أمامي كلّ ما خلّفته من آلامي. وفي لحظة فتحت عينيّ لأجد الأيقونة أمامي، صامتة مبتسمة. تلـملـم معي وفيّ جروح العمر. مع كلّ توهّج للقنديل يلقي ضوءه على لون في هذه الأيقونة ليخبرني بملامح الغد. يسوع هو الألف والياء. هو الباب والنهاية، هو الوحيد الذي لن يلفظني بل أنا من أبعده وأغيّبه. أنا من أصلبه وألطمه وأغرس في جنبه خنجرًا وأغرزه لأعمّق من جراحه، وأرفع عينيّ لأراه يبكي.
لأنّ اللَّه معنا، عليكم أن تعيشوها وأن تأكلوها وتتنفّسوها لتذوب وتتماهى مع كروموزوماتنا، لتصل إلى نهاياتنا الوراثيّة التي ستظهر في امتدادنا وفي عيون أطفالنا وقلوبهم . لذا اعلموا وانهزموا واسمعوا لأنّ اللَّه معنا.