مجلة النور العدد الثاني – 2023
الكهنوت، مسيرة بذلٍ وحبّ «لم تختاروني أنتم، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتنطلقوا...»(يوحنّا 16:15).
هذا ما قاله السيّد لتلاميذه؛ وفي الكلام دلالات كبيرة وهي أنّ الشخص ليس هو من يطلب لنفسه شيئًا، بل اللَّه يختار من يراه مناسبًا لهذه الخدمة. والشخص المختار عليه أن يعي أهمّيّة هذه النعمة المعطاة له من اللَّه أنّه استلمها مجّانًا من الذي بذل نفسه لأجلنا «ليس أحدٌ يأخذ لنفسه الكرامة بل من دعاه اللَّه كما دعا هارون» (عبرانيّين ٥: ٤). إذًا، على المختار أن يتحلّى بإحساس عميق بأنّه غير مستحقّ ومعرفة أنّه مدين بالنعمة إلى المؤمنين (يوحنّا الذهبيّ الفم).
أعطى اللَّه سرّ الكهنوت في العهد القديم، كان هذا بدء كشف سرّ تدبيره الخلاصيّ للبشر، مهيّئًا لكهنوت العهد الجديد الكامل والحقيقيّ. فكان لا بدّ من أن يختار اللَّه الكهنة كموجّهين لمسيرة الخلاص وكارزين بمجيء المسيح؛ فدائمًا اعتبر الكهنوت ميثاقًا بين الكاهن واللَّه، والكاهن مكرّس ومفروز للخدمة «يقفون أمام الربّ ليخدموه ويباركوا باسمه...» (تثنية ١٠: ٨).
عرفت الكنيسة، منذ القدم، أشخاصًا مفروزين ليتممّوا الخدم؛ وورد في سفر أشعياء «أمّا أنتم فتدعون كهنة الربّ...» (أشعياء ٦١: ٦)، كذلك في العهد الجديد، فمنذ القرون الأولى كتب القدّيس أقليمس بابا روما «أنّ الرسل أقاموا مختاري الروح القدس أساقفة وشمامسة».
فالكاهن دوره كبير في الكنيسة، إنّه المبشّر بالإنجيل وهو خادم المسيح «فليْحسْبنا الناس كخدّام المسيح ووكلاء أسرار اللَّه» (1كورنثوس ١- ٤). إذًا، الكاهن لا يمكن أن يحصر دوره بإقامة الخدم، لأنّ دوره أشمل بكثير، دوره خلاصيّ؛ هو أيقونة المسيح وعامل مع اللَّه ووكيل في إقامة الأسرار المقدّسة. لكن، حسب ما جاء على لسان القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ، يصبح الكثيرون كهنة لاعتبارات مهنيّة، لأنّهم يطمحون لوظيفةٍ عليا، ولا ينظرون إلى الكهنوت على أنّه خدمة دونها مسؤوليّات.
أمّا الرعيّة، فتشكّل، بكلّ أبنائها، حياة الكاهن وهمّه. إنّها عائلته الكبيرة، ولا فرق فيها بين هذا وذاك، فالكلّ سواسية والكلّ واحد، وهو مدعوّ إلى أن يغمر الجميع بمحبّته الأبويّة، ساعيًا إلى أن يكون على صورة الربّ يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل الكنيسة. «ليقدّسها مطهّرًا إيّاها بحميم الماء بالكلمة.» (أفسس ٥: ٢٦). علمًا أنّ الرعاية، في المفهوم الكنسيّ، تتحرك في الاتجاهيّن معًا: إنّها رعاية الكاهن لأبنائة ورعاية الأبناء لكاهنهم؛ إذ إنّه هو أيضًا بحاجة إلى الرعاية، فهو راعٍ ومرعيّ بآن.
هذا المشروع الخلاصيّ يتطلّب من الراعي حمل رعيّته في فكره وقلبه، لتتحوّل الرعيّة معه من بيوتٍ كثيرة إلى بيت واحد، ومن عائلات متبعثرة إلى عائلة واحدة مقدّسة. هذا المسعى لا يحصل ولا يستقيم من دون تفاهم الاثنين وتعاونهما معًا يدًا بيد: «الراعي والرعيّة».
إذًا، الكاهن ليس موظّفًا، ولا الكهنوت وظيفة حسب المفهوم البشريّ، يسعى فيها وبواسطتها حامل هذه الرتبة إلى أن تشكّل له مصدر ربحٍ وتجميع أموال، بل رسالةٌ مقدّسة خلاصيّة.
مقابل هذا، على الرعيّة ألّا تتغافل عمّا قاله الرسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: «ألستم تعلمون أنّ الذين يعملون في الأشياء المقدّسة من الهيكل يأكلون؟» (١كورنثوس ٩: ١٣). ما يعني أنّ المال للراعي هو لإتمام الحاجات فقط، وليس للمكاسب، وهذه مسألة وعي وإدراك يتحمّل مسؤوليّتها الكاهن والرعيّة في آنٍ معًا.
هذا الموضوع يحمّل الكاهن مسؤوليّة كبيرة وهي التنبّه إلى ألّا يكتفي بإقامة الخدم التي هي من اختصاصه وحده (القدّاس الإلهيّ، الإكليل، المعموديّة، الدفن وغيرها من الخدم)، وأن يكون العين الساهرة على رعيّته، محبًّا لكلّ عضوٍ من أعضائها، ويفتقدهم، وإلّا تحولت خدمته من خدمة كنسيّة إلى خدمةٍ وظيفيّة دنيويّة.
إذًا، أسّس الربّ الكهنوت ووعد شعبه بعهد جديد أفضل من العهد القديم «...وأقطع مع بيت يعقوب ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم...» (إرميا 31: ٣١- ٣٤)، لكنّ السرّ لم يكن كافيًا لإعادة الشركة بين الشعب واللَّه، فالكهنوت العبرانيّ كان يقدّم الذبائح للمصالحة مع اللَّه، أمّا في الكهنوت المسيحيّ فقدّم الإله ابنه يسوع المسيح لتحرير شعبه من عبوديّة الخطيئة وخلاصه، وهذا ما علينا أن ندركه ونعرفه حقّ المعرفة.
ألا أهّلنا الربّ جميعًا رعاةً «كهنةً متخصّصين»، وعلمانيّين «كهنوتًا ملوكيًّا»، للسهر والعمل بحكمةٍ وتواضع، ومحبّة، كيلا نجعل كنائسنا أحجارًا ومقاعد خشبيّة، بل تكون، كما أرادها الربّ، هياكل بشريّةً، صلبةً، مصونةً، لا تتزعزع ولا تنكسر.