يحاكينا الربّ باستمرار ويغدق علينا نعمه، لكنّنا لا نلتفت إلى تلك التفاصيل الرائعة التي نحياها إلى أن نعبر بتجارب نكون فيها على حافة الفقدان، وهنا تأتي النعمة الأهمّ التي تكمن في الصبر الذي يمنحنا إيّاه الربّ، والاجتهاد الذي يكلّل الحياة بالنموّ، للوصول إلى هدف روحيّ أو مادّيّ وفي كلّ لحظة عبور نصرخ «يا اللَّه كن معنا يا ربّ» وتنتابنا حرارة النداء وإعلان حاجتنا إلى قدرته الكلّيّة إلى عدله ومحبّته.
حين نتجاوز تلك اللحظات تبدأ حرارتنا الروحيّة بالالتفات إلى الاهتمامات اليوميّة، وفي هذه العودة تكمن إرادتنا وفهمنا في استلهام العبر من التجربة. فمنّا من يبصر الحياة بحكمة التجربة التي حاكت أحاسيسه بلغة خاصّة في تلك اللحظات. ومنّا من يعود إلى مزاجه الشخصيّ الذي كوّنه العالم البشريّ المحض في صراعه على الوجود والتملّك والأنا العالية.
هنا يأتي دور قوّة الإنسان في الاختيار. يقول الكتاب في سفر الأمثال 7:24 «أيّها الأبناء اسمعوا لي واصغوا لكلمات فمي. لا يمل قلبك إلى طرقها ولا تشرد في مسالكها. لأنّها طرحت كثيرين جرحى، وكلّ قتلاها أقوياء».
فالتجربة لها مسالك كثيرة تتزيّن بتعاظم الأنا واللامبالاة والتسلّط وحبّ الأهواء، وكلّها تنحدر بالإنسان إلى خدور الموت بلا وعي إلى سرعة الفقدان لسلام الربّ وفرحه في هذه الطريق.
يقول الربّ في سفر الأمثال، الإصحاح الأوّل 11-19:
إن قالوا: «هلمّ معنا لنكمن للدم. لنختف للبريء باطلًا. لنبتلعهم أحياء كالهاوية، وصحاحًا كالهابطين في الجبّ، فنجد كلّ قنية فاخرة، نملأ بيوتنا غنيمة. تلقي قرعتك وسطنا. يكون لنا جميعًا كيس واحد».
يا ابني لا تسلك في الطريق معهم. إمنع رجلك عن مسالكهم. لأنّ أرجلهم تجري إلى الشرّ وتسرع إلى سفك الدم.
لأنّه باطلًا تنصب الشبكة في عينيّ كلّ ذي جناح. أمّا هم فيكمنون لدم أنفسهم. يختفون لأنفسهم.
لا مناص إذا أنّه حين تهزّنا الاختيارات نرجع إلى الربّ، وبخاصّة حين تكون هذه الهزّات زلزالًا يحرّك من تحتنا كلّ ساكن.
لكن كم حريّ بنا عندها أن نختار صخرة الرحمة التي تذوّقنا حلاوتها في تلك اللحظات، والمحبّة التي احتضنتنا بها يد الربّ، والمسامحة التي لم تنظر إلى خطايانا المتراكمة في لحظات ضعفنا. هذه الأصوات الخائفة التي علت في داخلنا في تلك اللحظات هل من السهل علينا نسيانها حين نعود إلى الحياة بيوميّاتها المتواترة؟
نعم يحصل أن تشرّدنا المسالك، وقلّة هم من يحفظون صوت الربّ بداخلهم، وتنتج هذه التجارب في أنفسهم هزّة للأرواح قبل الأجساد لأنّها تستنهض كلّ الهمم الداخليّة في عمليّة بحث حقيقيّة عن طرق سالكة إلى نور الربّ بالثقة الممزوجة بالإيمان والحكمة. أمّا أين تتجلّى هذه الخبرة؟
نقرأ في سفر الأمثال 20:١: «الحكمة تنادي في الخارج. في الشارع تعطي صوتها. تدعو في رؤوس الأسواق، في مداخل الأبواب في المدينة تبدي كلامها قائلة: «إلى متى أيّها الجهّال تحبّون الجهل، والمستهزئون يسرّون بالاستهزاء والحمقى يبغضون العلم. إرجعوا عند توبيخي. هأنذا أفيض لكم روحي أعلّمكم كلماتي».
يريد الربّ أن يلفت انتباهنا إلى أعماله، ولكن لن يكون حسنًا إلّا باختياراتنا المقترنة بإفساح المجال للعمل بتوجيه الروح القدس والإنصات إلى صوت الربّ.
إذًا هي ليست هزّة أرضيّة عابرة، بل هناك الكثير من المتغيّرات التي نصحو عليها.
وكما تظهر الأرض ما في عمقها من نفائس رغم الدمار التي تسبّبه في البنية التحتيّة، كذلك بعض البشر حين تهزّهم الأزمات المختلفة الأسباب تصقل فيهم جوهر الروح. فتبدأ الأنا العليا بالتراجع لتفسح مجالًا للآخر كي يتنفّس رياحين الحياة. كما تظهر قوّة المسامحة حتّى تبدو البغضاء ضعيفة إلى أن تزول. يتراجع حبّ التملّك ويفوح فكر المعطي المتهلّل الذي يحبّه اللَّه.
«كلّ واحدٍ كما ينوي بقلبه، ليس عن حزنٍ أو اضطرارٍ. لأنّ المعطي المسرور يحبّه اللَّه». (2كورنثوس 9: 7).
هذه التغييرات لا يمكن الحفاظ عليها سوى بإفساح المجال لعمل الروح القدس فينا، وهذا ما نسمّيه الحكمة، وفيها يقول الربّ في الإصحاح الثاني من سفر الأمثال: «إذا دخلت الحكمة قلبك، ولذّت المعرفة لنفسك فالعقل يحفظك، والفهم ينصرك، لإنقاذك من طريق الشرّير، ومن الإنسان المتكلّم بالأكاذيب، التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة. هذه النفائس هي خير تجارة للزمان حيث النور المتوّج بالمعرفة والحكمة اللذين يمنحان السلام حتّى إذا اضّجعت يلذّ نومك ولا تخشى خراب الأشرار».
أمّا الآخرون فيعودون إلى الحياة المادّيّة بكلّ ما في فيها من شهوات، حيث تميل العين إلى الملذّات وتنحرف الشفتان إلى الأذيّة. هناك يخسر الإنسان فرصة استقبال الروح في صدره ويرمي نفسه في يد الصيّادين، فيبقى في نعاس يتّكئ على عكّاز من فقر وعوز إلى الفهم والفضيلة والحكمة الساكنات في أعالي المعرفة المتبرئات من كلّ أشكال الغشّ والكلام البطّال ورياح الأشرار.