العدد الثاني - سنة 2023

16 – خاطرة: وجه من وجوه الليل / الشمّاس بول (نقولا) - العدد 2 سنة 2023

 وجه من وجوه الليل

الشمّاس بول نقولا

مجلة النور العدد الثاني – 2023

 

ها قد حلّ الظلام مجدّدًا، يرافقه الأرق، كصديقٍ وفيٍّ دائمٍ، ها قد استيقظت النجوم تتجلبب بحلّةٍ بيضاء كحبّات ثلجٍ تأبى أن تتساقط من علو، أمام قمرٍ يحتار في الاختيار. سيطر السكون على أصوات نبحٍ من هنا وهناك، وخرجت الثعالب من مغاورها تترقّب فريسة العشاء، الطيور نامت متيقّظةً من لدغة ثعبان، وزنابق الحقل لوت على كتف الهدوء، فارتاحت أشجار الغابات على صدر النسيم، وأغمضت عناقيد الباحات تلتحف أوراق العرائش، واجتمعت عتمات الليل على أحاديث الصمت من نوافذ الشوارع الخالية، ومن تلالٍ توحّدت مع السماء، ومن قعر وديانٍ مجهولة حدودها، ومن بحرٍ سرحت مياهه بين أرضٍ وفضاء، اجتمعوا وشرعوا يسكرون على صحوتي، يتساءلون عن غريبٍ في مجتمعات السكينة ويتضاحكون على أبله في دنيا الاغتراب، يتهامسون على تائهٍ أضاع مصباح النجاة وفقد سبيل الرجوع، يتغامزون على أعمى يرى كلّ شيءٍ قاتمًا، يثرثرون على أصمّ يسمع الضجيج صمتًا، يتباهون على ضعيفٍ تصرّ أسنانه فزعًا وتسكع قدماه خوفًا من فراغ الحياة.

يصطادون طيرًا وحيدًا، معزولًا، مرذولًا، يخالف دورة الطيران، يخرجون المياه من لؤلؤتي النور ليسكبوها على وجنتي زائرٍ أبى النوم أن يحتضنه، ينشرون رسائل الشماتة في ما بينهم عن رضيع السهر ليغرقوه في زواياهم الرذيلة، يدخلون بريء النهار أزقّةً ضيّقةً لا استئذان في دخولها ولا تعرف أروقتها ممرّاتٍ للخروج.

فاكتب يا ليل تاريخك الأسود على صفحاتك الكاحلة، أكتب حكاياتٍ تروي بها قصص الفساد والرذيلة والفسق والموت، أكتب رواياتك على ورقٍ مزيّفٍ لا شكل له ولا لون ولا ما شابه، أكتب يا ليل كيف خطفتني من فراشي ولست الأوّل ولن أكون الأخير، أكتب ثمّ أكتب ثمّ أكتب، وعندما ينتهي حبر قتامك، إقرأ كتاباتك علّك تخجل، إقرأ أفعالك يا من دبّر الغروب لكي يسود، اعترف بما اقترفته تجاه بني البشر، ثمّ اهرب يا ليل، اهرب قبل البزوغ، فعاجلًا أم آجلاٍ ستفتضح أمام فجرٍ جديدٍ يكشف خفاياك، ألست من دبّر الحوادث للسكارى؟ ألست من دبّر الخيانات؟ ألست من أوى الذين باعوا الأثاث والبيوت والعائلات على طاولات الميسر؟ أوَلست من شوّه وفاء المتزوّجات وعذرة العاذبات؟ في هدئتك ضجيج مخفيّ، وفي سكينتك فوضى مروعة وفي فراغك أناس يعيشون موتًا مخيفًا، فاستيقظ إذًا مع أوّل فجرٍ ولا تعد تأتي إلّا لراحةٍ قصيرةٍ تنبئ ببداءة يومٍ جديد، يوم يبارك اللَّه الرجل في عرقه، والمرأة في تدبير منزلها، والأولاد في نموّهم وعلمهم وتربيتهم، استيقظ فسيأتي الوقت وتباد أنت وكلّ أوساخك، وكلّ أبناء جيلك سيبادون، وستقرأ أسرارك كلّها علنًا في محاكم النسيان، من أنت أصلًا يا ليل؟ من يسمع بك؟ من يعرفك؟ من يخبر عنك؟ من يبالي بك؟ أنت نكرة يا ليل، أنت لا شيء أصلًا ولا وجود لك، أنت ظهرت من غفوة النهار، وظلامك سينتهي مع أوّل شروق، كيانك وهميّ، فأنت من دون كيان، أنت لم تخلق ولم تلد ولم تصنع إلّا من غياب النور، أنت كالشرّ الذي لا وجود له إلّا إذا صار الخير مغيّبًا، فاستيقظ إذًا قبل أن يباغتك النور، وارتدع من ألاعيبك وحيلك الزائلة، لست تخيفني في ما بعد يا سالب الطمأنينة، أتعرف لماذا؟ لأنّك لم تلدني بل أنا وليد النور، أنا ابن للحق وسأقول احتيالاتك جهارًا للمتوهّمين، سأكشف تعاسة أبنائك أمام إخوتي، وسأقطع عنقك من دفء الشمس، وأبدّد رائحة نتانتك بعطر الورود، وسأبعث الهواء النقيّ من أغصان السرو والصنوبر والسنديان، وسأملأ شوارعك بالتائبين، وأستبدل بأصوات الضاحكين صراخك والقهقهات، وسألغي اليأس الذي تزرعه في عقول المشتّتين وأجعل مكانه الرجاء بقيامتهم من وقعةٍ إلى نهوض، ومن حزن إلى فرح، ومن رقادٍ إلى يقظة، ومن ألمٍ إلى شفاء، ومن موتٍ إلى حياة.

سأنتشلهم من غرق لهوٍ يكاد يخنقهم، وهم لا يبالون أو يدرون ما يفعلون، لا يعرفون من أين أتوا ولا إلى أين هم ذاهبون، لأنّهم لا يدركون النهاية التي سيحصّلون، وأنت كما أنت شبح مهيمن على أدمغة الأغبياء، لا رحمة لديك ولا عطف ولا حنان. ولكن إلى متى يا صاح، إلى متى؟ ستنتهي حتمًا في لحظاتٍ، فها إنّ السماء تشرّع أبوابها الزرقاء، وها إنّ المعاول في أيدي الفلّاحين ترنّ على صخور الحقول، والنسوة العفيفيات يعاونّ أزواجهنّ في جمع ثمار أتعابهم، وها رائحة الياسمين تفحّ في باحات المنازل على ضحكات الأولاد، فيخرجون إلى فيّات سنديانةٍ تلملمهم كأمٍّ تعلّم أبناءها مشقّات الحياة، والله أعلم أين أصبحت أنت يا مهرولًا نحو الهاوية.

فاحذروا يا أبناء النور من مكايد هذا الليل الغريب، الذي يترككم يتامى الضياع، جاهدوا ما دام نهار، لكي ما إذا عاد ترتاحون لرقاد سلامٍ حتّى لا تصادفوا شياطين العتمة وسقطات الملذات وهاوية الشهوات، جاهدوا في سبيل أن تبقوا محصّنين برؤيةٍ واضحةٍ، وسيرةٍ صالحة، مدركين الطريق الصحيح نحو قيامةٍ حقيقيّة.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search