العدد الأوّل - سنة 2023

02 – رعائيّات: الكنيسة - أحد النّفْسِ ونفّسُ الأحد / قيس أسقف أرضروم - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

ترك المخلِّص يسوع المسيح لتلاميذه المحبّة وصيّةً: «اثْبتوا في محبّتي» (يوحنّا 15: 9)، مدرِكًا جيِّدًا القوّة الخلاّقة لشركة المحبّة، لذلك، في صلاته إلى أبيه السّماويّ، قدّر هدف هذه الوصيّة «لِيكون الجميع واحدًا» (يوحنّا 17: 21). هذا الأمر مدرجٌ أيضًا في دلالة كلمة «شركة»، حيث تعني أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به دون الآخر، أمّا المصطلح الأوروبّيّ Communion فمكوّن من المقطع com الذي يشير إلى معنى المعيّة، والمقطع un من اللاتينيّة unus الذي يدلّ على الرقم واحد، أو الوحدة. بكلماتٍ أُخَر، الشِرْكة تعني أنّ الكلّ هم واحد، حسب كلمات المخلّص: «أن يكون الكلّ واحدًا».

من الضروريّ هنا توضيح أنّ الوحدة التي ذكرها المخلّص يسوع هي ليست وحدة بشريّة فحسب، بل وإلهيّة أيضًا، إنّها تركيبة (خلقة) بشريّة-إلهيّة، لأنّ المحبّة التي أوصى بها التلاميذ تتأتّى من اللَّه، وتتحقّق بين البشر، لأنّه قال: «كما أحبّني الآب كذلك أحببتهم أنا» (يوحنّا 15: 9)، وأمّا الوحدة التي ذكرها المخلّص فتتخطّى البعد البشريّ لأنّه قال في صلاته: «لِيكونوا واحِدًا كما نحن» (يوحنّا 17: 11).

هنا يتحدّث المخلّص عن الأنموذج الأسمى للمحبّة المسيحيّة، المحبّة القائمة بين أقانيم الثالوث القدّوس، المحبّة المتبادلة ثالوثيًّا، التي هي في الوقت ذاته تصل إلى فعل خلقِ العالم والإنسان على صورة اللَّه القائم في أقانيمه الثلاثة القدّوسة.

في العشاء الأسراريّ، أسّس المخلّص سرّ الأسرار، سرّ الإفخارستيّا المقدّسة، الحجر الأساس للكنيسة التي ستؤسّس في اليوم الخمسين عندما أوصى: «إِصنعوا هذا لِذِكري» ( لوقا 22: 19)، وفي وقتٍ لاحقٍ عندما وعد تلاميذه الرسل القدّيسين بأن يكون معهم كلّ الأيّام إِلى انقضاء الدهر (متّى 28 :20).

هكذا صارت الكنيسة مؤسّسةً إلهيّةً-بشريّةً مدعوّةً إلى تحقيق خطّة المخلّص في هذا العالم، وبخاصّة وصيّته: المحبّة والوحدة المتجسِّدة في الشركة.

الكنيسة أحد النّفس

للتركيز على أهمّيّة النّفس، يضع المخلّص سؤالًا بسيطًا واضحًا: «لأنّه ماذا ينفع الإِنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفْسه؟» (مرقس 8: 36- 37).

قال يسوع هذه الكلمات ضمن إطارٍ أراد عبره شدّ انتباه الناس إلى عدم وضوح أهمّيّة القِيم الحياتيّة التي كانوا يعيشونها (ونعيشها نحن في الوقت الحاضر) حيث التمسّك بالمادِّيّات يعيق نموّ النّفس وسموّها والاهتمام بها.

يمكن أن تكون النّفس مهملة، ومتضايقة، ومتألّمة، أو في حال اضطرابٍ لا يمكنها الانعتاق منها، ويمكن أن تكون أكثر من ذلك: مظلمة وميتة بالمعنى الإنجيليّ الذي يعلنه القدّيس بولس الرسول «لا تقتلوا الروح»، (وهذا ينطبق أيضًا على النّفس)، والمخلّص يحذِّرنا لئلّا نخاف من الذين يقتلون الجسد بل من الذين يقتلون النّفس (متّى 10: 28).

إذًا، النّفس بحاجةٍ إلى رعايةٍ، واهتمامٍ، وغذاء. لذلك قال أحد الحكماء القدامى: «إن كان لدي رغيفان من الخبز أبيع واحدًا واشتري بثمنه وردةً، فنفسي بحاجةٍ أيضًا إلى الغذاء».

غياب الاهتمام بالنّفس يضعفها ويهلكها، وهذا يغيِّر الإنسان من الداخل فيجعله يفقد الحسّ الروحيّ، ويهتمّ أكثر بالجسد وإشباع رغباته المادّيّة يومًا بعد يومٍ.

يمكن للإنسان الظاهريّ  homo sapiens الاعتقاد بأنّه قويّ ومرتاح، ولكنّه في حقيقته هو ضعيفٌ، ومهمومٌ، وهو على هامش القذارة بحاجةٍ إلى الرعاية الروحيّة والنفسيّة.

الأجيال أو القرون التي يعبرها الإنسان يكون فيها منشغلًا بسباق الإشكاليّات والتحدّيات الحياتيّة، وقلّما يكون منشغلًا بنموّ نفسه وارتقائها. فالسباق الذي ليس له نهاية، أي بدون استراحةٍ، يعني الموت الحتميّ.

اللَّه هو أوّل من ذكر ضرورة وجود الاستراحة في حياة الإنسان، عندما خلق الكون في ستّة أيّامٍ، ورتّب أن يكون يوم السبت يوم راحة.

في الحياةّ المنظّمة منطقيًّا، هناك ضرورة لوجود راحةٍ يقوم الإنسان فيها بالتأمّلِ بحياته (ماضيه وحاضره ومستقبله)، ويعمل على تقويم أعماله، ويصغي للصوت الداخليّ للروح، ويصلّي. الإنسان بحاجةٍ إلى يوم راحةٍ، إلى يوم أحدٍ.

الكنيسة تمنح الإنسان يوم الراحة هذا، يوم الأحد، ليكون يوم النّفس التي عليها أن تستلقي في أحضان الخالق تحاوره، وتستمدّ منه حرارة قلبه، وعطفه، وحنانه، ومحبّته.

يوم الأحد هو عيدٌ، لا بل هو العيد الأهمّ والأعظم. إنّه يوم قيامة الربّ. كلّ ما تقوم الكنيسة به وتقدّمه يجلب في حياة الإنسان المعاصر المسيح القائم من بين الأموات، وتفتح الباب للإنسان ليجده ويتبعه، وبذلك يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ: تبدأ مسيرة التألّه من هنا وتستمرّ في ملكوت اللَّه.

كون الكنيسة أحد النّفس، وعيد النّفس، فهي تجعل الإنسان يدرِك أزليّة قيمته الروحيّة الأساس التي تضعه في طريق الواقعيّة الماوراء طبيعيّة أسلوبًا لتوازن الحياة التي هي ليست ذات هدفٍ فانٍ زائلٍ ومفقود.

لكون الأحد مخصّصًا للنّفس، ولكون الأحد هو عيد القيامة، والقيامة هي الوثاق الثابت للألوهة في الإطار المؤقّت للوجود، تساعد الكنيسة الإنسان على تفهّم وإدراك ما يمكّنه من أن يكون إنسانًا سماويًّا أو ملاكًا أرضيًّا، حسب تعبير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، وتاليًا كيف يمكنه أن يكون بشريًّا بالمعنى الأصيل للكلمة، المتحدِّرة من خلق الإنسان على صورة اللَّه ومثاله، وبذلك يصير حضورًا إيقونيًّا في عالم زمنه.

الكنيسة نفْسُ الأحـد

كيوم راحةٍ، نطالع فيه ما فعلناه، وما حدث معنا في الأيّام السابقة، وما سنقوم به في الأيّام القادمة، يكون يوم الأحد تلقائيًّا ميزانًا ومعيارًا للتقويم، وتقديم الشكر للَّه على ما أعطانا ووهبنا من خيراتٍ ونِعم. أمّا الشكر فهو إفخارستيّ، ليس بالمعنى الحرفيّ للكلمة فحسب، بل وبمعنى التناول المادّيّ والروحيّ لجسد الربّ ودمه المقدّسين، في إطار القدّاس الإلهيّ، وبخاصّة في يوم الراحة، الأحد، يوم قيامة الربّ Kiriaki imera

لا يمكن أن يدرك القدّاس الإلهيّ أو يحتوى إلّا من داخل كنيسة المسيح، لذلك فهو نفس الأحد.

القدّاس الإلهيّ يكمِّل توازن النّفس ويتمّمه، جاعلًا الإنسان جوهرًا تمجيديًّا، ليتورجيًّا، خلاّقًا لجماليّات التجلّي، بانيًا في الإنسان صورةً جديدةً منحوتةً في نور الإنسان المتروحن.

استعادة صفة التمجيد، تكون أكثر أهمّيّةً بقدر ما تكون في هذا العالم المعاصر فكرة نجاحٍ تهيمن على الجدليّة الفلسفيّة، وحتّى في بعض الأحيان اللاهوتيّة.

عبر حركة الشركة مع العموديّ، اللَّه، والأفقيّ، القريب، يكشف القدّاس الإلهيّ بوضوحٍ العطايا (المواهب والأحاسيس) الإلهيّة المحفوظة في الإنسان، في عمق جماليّاته الداخليّة، وبذلك يساعده على المحافظة على وحدة العائلة البشريّة في وحدانيّة لا تعليل لها، ولا منطق، وأقلّ لاهوتيّة.

كنفسٍ ليوم الأحد، تعيّد الكنيسة قيامة الربّ، محتفظةً في نفسها بشعلة الروح القدس المنسكب في اليوم الخمسين على الرسل القدّيسين، وتخاطب المؤمنين حول القلب الملتهب بعشق اللَّه وحنينه – هكذا مثلما يسمّي الآباء القدّيسون طريق القداسة -تساعده على اكتشافٍ ذاتيّ لنار الروح القدس المقدّسة التي تنسكب في بداءة حجٍّ مستمرّ في البحث عن اللَّه بطرائق داخليّةٍ للنّفس.

لكون المسيح القائم يحتلّ مكانًا لامتناهيًا في تخطّي أيّ حدودٍ، وبتحقيق الوحدة العموديّة– الأفقيّة، يصير الإنسان المؤمن في الكنيسة قابلًا لأيّ شكلٍ من أشكال الشركة التي تهيّئه من هنا في شركةٍ نهائيّةٍ مع اللَّه في ملكوته.

بمعنى أخر، في المسيح وفي الكنيسة يكتشف الإنسان معنى السموّ والتألّق الروحيّ، وإقامته في الأبديّة، الإشكاليّة الأكثر أهمّيّة لأنّ الوجد بدون سموٍّ وتألّقٍ هو طريقٌ يجعل كلّ شيءِ وثنًا.

 

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search