العدد الأوّل - سنة 2023

01 – الافتتاحيّة: بصمات من رحلوا / الأب ميخائيل الدبس - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

 إحدى وثمانون سنة مرّت على ولادة حركتنا والزمن يطوي صفحات أعمارِ بعض من شهدوا ولادتها ونموّها، سائلين الربّ أن يغمر من رحل منهم بالرحمة والراحة، وأن يجعل أواخرَ من بقي منهم مجاهدًا مسيحيّةً سلاميّةً بلا ضرر ولا خزي وجوابًا حسنًا لدى منبر المسيح. ودّعنا كبارًا لنا في السنّ والالتزام والشهادة. كلّ مرّة يغيب عنّا وجهٌ حركيّ نستذكر سيرته وما حملته من أقوال وأفعال في ورشة بنيان كنيستنا الأنطاكيّة وديمومة شبابها وتجدّدها. وفي الذكرى حزن وعبرة. نحزن لخسارة وجوه ألفناها ورأينا عبرها إطلالات حيّة من لدن الربّ ونرجو عوضًا منها وجوهًا أخرى تعتبر ممّن رحلوا وتكمل ما عجزت محدوديّة الأعمار عن تحقيقه. على هذا الرجاء نحيا ونلتزم ونشهد بإيماننا الفاعل بالمحبّة التي تجمعنا أحياءً وراقدين والتي لا تسقط أبدًا.

سمعت من إخوةٍ لنا، لا أذكر أكانوا أحياء أم راقدين، كما لا أذكر حرفيّة قولهم، ما مفاده أنّ على الحركيّ، إن كَشفتْ له حياتُه في الروح ضمن الجماعة الكنسيّة مجالَ فعلٍ ورأى في خوضه تجسيدًا لمحبّة كنيسته ونهضتها، أن يبادر، قبل غيره، إلى التزام ما تكشّف له دعوةَ تكريسٍ أوكلها إليه الروح القدس، وأنّ التزامه هذا لن يحقّقَه غيرُه إن تخلّف هو عنه. وله فيه سندان: بركة الراعي وشورى الإخوة.

لم أتيقّن، فعلًا، معاني هذه المقولة إلّا حين غاب عنّا إخوةٌ التزموها والتزموا فيها ما تلمّسوا من دعواتٍ تكريسيّة في كنيستهم. كانت حياتُهم أقوالًا وأفعالًا لم تصدّها صعوباتٌ أو خيبات أو سقطات، بل قرأوا فيها رسائلَ من ربّهم أنّه هو الفاعل فيهم إن كانوا تائبين، وأنّ قوّة الروح تُكمِل ضعفاتهم وتيسّر صعوباتِ أفعالهم وتفرج ضيقاتِ خيباتهم.

ماذا لو تهاونّا عن فعلنا بذريعةٍ أو أخرى، كقول إنّ اللَّه قادر على أن يرسل فعلةً لكرمه، وإنّه قادر على أن يقيم من الحجارة أولادًا لإبراهيم؟ أفعال اللَّه في كنيسته ستُتَمَّم وتدبيرُه الخلاصيّ لها سيبلغ كمالُه. المشكلة ليست في وجود الفعلة وإتمام فعل اللَّه الخلاصيّ في كنيسته، بل في تخلّفنا عن دورنا في هذا الفعل الذي شرّفنا اللَّه بأن نؤازره فيه لا لحاجةٍ له منّا، وهو المنزّه عن الحاجة، بل لنكون شركاء له في نصره الأخير.

 إنّ اللَّه، بتجسّده، جعل ملكوته بناءً من حجارة حيّة، لكلٍّ منها جماله وفرادته وقصّته التي لا تشبه الأخرى وهو حجر الزاوية به يمَتَّن البناءُ ويتناسق. بهذا ندرك أنّ عمل كلٍّ منًّا في الكنيسة لن يقوم به آخر. ليست الأهمّيّة في إتمام الفعل بل في كيفيّته. الإتمام حاصل بي أو بدوني، أمّا الكيفيّة فلن تكون إلّا بي وبدوني لن يُنجز هذا الفعل، بدوني ستغيب بصمتي الشخصيّة والفريدة عن الحجر الذي سيرصفه اللَّه في بنيان ملكوته. جماليّة الملكوت، بعد التجسّد، لن تكون جماليّةَ مجدِ اللَّه فحسب بل  أيضًا الجماليّةَ الشخصيّةَ لكلٍّ من حجارته الحيّة. كلّ منّا لا مثيل به ولدوره ولفعله. بصمتي لا تطابق بصمة أخرى في البشريّة جمعاء وليست هذه صدفة. عملي في الكنيسة لن يكون له مثيل ولن يقوم به آخر. 

هذا ما فعله المؤسّسون وكلُّ من تمثّل بهم. لم يوكلوا عملهم إلى غيرهم بل أدركوا أنّ بصمتهم لن يضعها غيرُهم. عملوا وتركوا بصمة في بنيان الكنيسة لن تمحى، ودعوا إلى أن يكمل آخرون من بعدهم ما عجزت سنوّ عمرهم الدنيويّ عن إتمامه لا نسخًا بل إبداعًا وبصمةً جديدةً فريدةً.     

نفتقد من رحلوا عنّا لأنّهم لن يتكرّروا فاجتهدوا أن تتركوا بصمة في فسيفساء الملكوت لن تتكرّر. ربّنا يفرح بالحجر الذي سترصفونه في هذه الفسيفساء مهما كان متواضعًا- وكلّنا وضيعون أمامه- فلن يضع غيرُكم مثيلًا له في جماليّات الملكوت الحاضر والآتي.

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search