العدد الأوّل - سنة 2023

03 - خاطرة : «أهواء كثيرة تحاربني» الشبيبة في مهبّ رياح العصر / الأسقف تيودور (الغندور) - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

 مرحلة الشباب هي أكثر من مجرّد فترة زمنيّة، إنّها حالة القلب بغضّ النظر عن العمر. لذا مطلوب من الشبيبة أن تتحرّر من أولئك الذين يريدونها أن تشيخ، وأن تتحجّر في الماضي، أو الذين يعملون على كبحها أو تجميدها. مطلوب كذلك أن تتحرّر من الظنّ بأنّها شابّة لأنّها تذعن لكلّ ما يقدّمه لها العالم، ظنًّا منها أنّها تتجدّد، لأنّها بهذا تضع شخصيّتها وفرادتها جانبًا وتقوم بمجاراة الآخرين. الشبيبة مطلوب منها أن تكون هي نفسها، وأن تتجدّد دائمًا وتنال قوّة كلمة اللَّه الدائمة الجدّة، وقوّة الإفخارستيّا، وحضور المسيح اليوميّ وقوّة روحه في تصرفاتها كافّة. هي شابّة عندما تكون قادرة على العودة بشكل دائم إلى مصدر الحياة لا بالالتصاق بكلّ ما يقود إلى الموت.

  قد تقع الشبيبة في تجربة فقدان الحماس لأنّها ما عادت تسمع دعوة الربّ، وتنزلق في متاهات مختلفة من دون أن تزن المخاطر التي يتسبّب بها الانجراف وراء رياح العصر. وهي في بحث دائم عن ضمانات دنيويّة زائفة. فالشبيبة هي التي، وعلى وجه التحديد، هدف الشيطان الذي يريدها أن تقع في الفساد، أو في الخمول، أو الكبرياء، أو في الخضوع للشهوات، بدلًا من أن تشهد للحقّ، وأن تكون قريبة من اللَّه والآخرين وتجاهد في سبيل النقاوة والارتقاء، وأن تتقبّل الأمور بتواضع وتناقش هواجسها بحكمة. والمخجل في الموضوع هو أنّ اللَّه، والدين، والكنيسة، بالنسبة إلى العديد من الشابّات والشبّان، أضحت كلمات فارغة لأسباب مختلفة تتعلّق بظروف كلّ شابّ أو شابّة. فالشباب ما عادوا ينتظرون أيّ شيء من الكنيسة لأنّهم لا يعتبرونها مهمّة لحياتهم. بل إنّ البعض منهم يطلبون صراحة أن تدعهم وشأنهم، لأنّهم يشعرون بأنّ وجودها مضجر ومزعج، مقارنة بما يقدّمه لهم العالم من مغريات ومن تسهيلات وصلت إلى حدّ الانحلال الأخلاقيّ، وسهولة الوصول الى ما يعتبرونه متعة وتسلية، متجاهلين أنّ الجسد إذا ثار ضدّ الإرادة وطلب لذّته يصبح أخطر عدوّ للإنسان.

رغم كلّ ما تحدّثنا عنه، لا يمكننا إلّا التأكيد أنّ الشبيبة هي مستقبل العالم وحاضره، وتسهم في إثرائه. ما عاد الشابّ طفلًا، فهو في مرحلة من عمره يبدأ فيها بتحمّل مسؤوليّات مختلفة، وبالمشاركة مع البالغين في تنمية الأسرة والمجتمع والكنيسة أيضًا. لكنّ الزمن يتغيّر، وعلينا أن نجد سبيلًا لنجعل من الشبيبة تجتاز العواصف بأقلّ الأضرار الممكنة وأن يعوا أنّ الكنيسة كانت وما تزال وستبقى ميناء الخلاص.

ففي الوقت الذي نميل فيه إلى وضع لائحة من الكوارث، ومن عيوب شبيبة زمننا الحاضر، قد يصفّق لنا البعض لأنّنا نبدو خبراء في العثور على نقاط سلبيّة وعلى أخطار. لكنّ مواقف كهذه تدفع إلى المزيد والمزيد من البعد، والنقص في التقارب، وفي المساعدة المتبادلة. فدورنا جميعًا يكمن في إيجاد مسارات حيث يرى الآخرون الجدران فقط؛ والقدرة على رؤية احتمالات حيث يرى الآخرون الأخطار فقط. إن هي نظرة اللَّه الآب، القادرة على تقويم بذور الخير المزروعة في قلب كلّ إنسان ورعايتها، وبخاصّة عند الشبيبة.

فرغم إطار العولمة المتنامي، يجب التمييز بين من يتاح لهم كمٌّ متزايد من الفرص التي تقدّمها العولمة، ومن يعيشون على هامش المجتمع أو في البقاع الريفيّة ويعانون أشكال الإقصاء والتهميش. إذ إنّه في عالم اليوم، المليء بالتقدّم، العديد من هذه النفوس تتعرّض للمعاناة والتلاعب. بعض الشبيبة يجدون التقاليد الأسريّة قمعيّة ويهربون منها تحت حافز ثقافة العولمة التي تحرمهم أحيانا من نقاط مرجعيّة. ومع الأسف فإنّ العديد من الشبيبة يعيشون في سياقات الحرب ويعانون أنواعًا لا تحصى من العنف: الخطف، والابتزاز، والجريمة المنظّمة، والاتّجار بالبشر، والعبوديّة، والاستغلال الجنسيّ، وما إلى ذلك. ويجد شبيبة آخرون، بسبب إيمانهم، صعوبة في الحصول على وظيفة في مجتمعهم، ويعانون أنواعًا مختلفة من الاضطهاد وحتّى الموت. هناك العديد من الشبيبة الذين، يكسبون عيشهم عبر ارتكاب الجرائم وأعمال العنف: العصابات المسلّحة والمجرمون، والاتّجار بالمخدّرات، والإرهاب. هذا العنف يحطّم حياة الكثير من الشبيبة. ولا نغفل عن ذكر محنة الفتيات والمراهقات الحوامل، ووباء الإجهاض، فضلًا عن انتشار فيروس نقص المناعة البشريّة، وأشكال مختلفة من الإدمان: المخدّرات، ألعاب الميسر، والموادّ الإباحيّة، وغيرها. وأوضاع أطفال الشوارع والشبيبة الذين ليس لديهم منزل أو أسرة أو موارد اقتصاديّة.

ولكن بالمقابل نرى في بعض الشبيبة توقًا الى اللَّه. كثيرون لديهم رغبة حقيقيّة في تطوير مواهبهم من أجل تقديم شيء لعالمنا. ونرى في بعضهم، حساسيّة فنّيّة خاصّة، أو شوقًا إلى الانسجام مع الطبيعة. وهناك في حالات أخرى، ربّما، حاجة كبيرة إلى التواصل. ونجد في العديد منهم، رغبة عميقة في عيش حياة مختلفة. إنّها نقاط انطلاق حقيقيّة، وألياف داخليّة تنتظر بانفتاح كلمة تحفيزٍ وتشجيع منّا لهم علّها تكون بداءة تحوّل نحو الأفضل. أدّى الانغماس في العالم الافتراضيّ إلى نوع من الانفصال عن الأسرة، وعن القيم الثقافيّة والدينيّة، وقاد الكثير من الأشخاص إلى عالم من العزلة وصولًا إلى الشعور بفقدان الجذور. الحياة الجديدة والحيويّة للشبيبة الذين يرغبون في تأكيد شخصيّتهم اليوم تواجه تحدّيًا جديدًا وهو التفاعل مع عالم حقيقيّ وافتراضيّ في آن واحد. وهذا يعني أنّه يجب عليهم إيجاد طرائق للانتقال من الاتّصال الافتراضيّ إلى التواصل الجيّد والسليم.

للكنيسة دور مهمّ كنقطة مرجعيّة، فاحتضان الكنيسة في داخلها لكلّ هذه الفئات المختلفة من الشبيبة، يسمح لها بتأدية دور نبويّ في المجتمع عبر حثّهم بصفة خاصّة، على عدم الوقوع في أيدي أولئك الذين يريدون وضعهم في مواجهة المخاطر، ويشجّعونهم على المجازفة والمغامرة في المعلوم والمجهول، ويسلبونهم الكرامة غير القابلة للتصرّف التي من المفترض أن يتمتّع بها كلّ إنسان.  وهنا على الكنيسة استبصار الذين هم مدعوّون لأن يكونوا آباء أو رعاة أو مرشدين للشبيبة، وأن تتخلّى عن الأنماط المتصلّبة وتنفتح على الإصغاء للشبيبة باستعداد وتنبّه. عبر الشبيبة، تستطيع الكنيسة تجديد حماسها الروحيّ ونشاطها الرسوليّ. الشبيبة لا تريد أن ترى كنيسة صامتة وخجولة أمام تحوّلات العالم. الشبيبة تحتاج إلى خلق الفرص التي تجعل صوت الشبيبة واهتماماتهم قريبة، وهذا التقارب يخلق الظروف للكنيسة كي تكون مساحة للحوار وتشهد على الأخوّة التي تجذب، لا أن تفقد الشباب وتتحوّل إلى متحف. الاستماع يتيح تبادل المواهب، وفي الوقت عينه، يضع طرائق ووسائل من أجل بشارة بالإنجيل تصل إلى القلب حقًّا، بطريقة واضحة ومثمرة.

الشبيبة مدعوّة لتعرف الربّ يسوع المسيح، فهو مصدر إلهام لكلّ من ينمو ويستعدّ للقيام برسالته في الحياة. وهذا يتضمّن النضوج في العلاقة مع اللَّه، مدركين أنّهم جزء من الكنيسة، ومنفتحين على أن يملأهم الروح القدس ويقودهم إلى تحقيق الرسالة التي يعهد بها اللَّه إليهم. ينبغي عدم إغفال العمل الرعويّ مع الشبيبة، فنحن بحاجة إلى مشاريع تقوّيهم وترافقهم. مشدّدين على ما قاله الرسول بولس: «كلّ الأشياء تحلّ لي، لكن ليس كلّ الأشياء توافق. كلّ الأشياء تحلّ لي، لكن لا يتسلّط عليّ شيءٌ» (1كورنثوس 6 :12).

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search