العدد الأوّل - سنة 2023

04 – خاطرة: التقليد والتقاليد / الأب بولس (وهبة) - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

استوحيت هذا العنوان من عنوان المقدّمة الطويلة لكتاب «معنى الأيقونات» لمؤلِّفيه ليونيد أوسبنسكي وفلاديمير لوسكي، الصادر باللغة الإنكليزيّة العام 1982 عن دار نشر معهد القدّيس فلاديمير في نيويورك، والمُعتبَر من أفضل ما كتب عن الأيقونة.

يُمَيِّز المؤلِّفان، كما يوحي عنوان ما كتباه، بين تقليد الكنيسة وما ترافَق معه وعلق فيه في بعض الأحيان من تقاليد، وسأحاول التفريق بين الاثنين انطلاقًا من روحيّة ما كتب المؤلّفان. فالتقليد، كما فهمته الكنيسة وهضمته وعاشته  هو ما تكشّف لها من الروح القدس الذي قال عنه الربّ يسوع في الإنجيل كما رواه الرسول يوحنّا بأنّه «يُعلمكم (أو في ترجمة أخرى «يخبركم») كلّ شيء» (يوحنّا 26: 14). فالمخبّأ في روايات الإنجيل الأربع تكشّف للكنيسة، أي للمؤمنين المؤتلفين حول الربّ يسوع، من الروح القدس للأصفياء والقدّيسين، وتمّ صَقلُهُ في ممارسة المؤمنين لإيمانهم وعباداتهم وعقائدهم التي جرى تبنّيها في المجامع المسكونيّة، كما في المجامع المحلّيّة التي تبنّتها الكنائس في وحدة المسار. لهذا أتت خبرة القدّيسين في نهج واحد، وإن بمسارات متعدّدة أحيانًا حسب واقع كلّ منهم وظروفه وشخصيّتة، بحيث تكاملت من دون أن يهيمن مسار على آخر.

هذا التنوّع في الوحدة طبع مسيرة الكنيسة بأمانة للخطوط العريضة لإيمانها القويم. فالتقليد إذًا هو تراكم وتَكَثُّف هذا الكشف الروح القدسيّ والمُعّبَّر عنه في العقائد الواحدة، ووحدة الليتورجيا، والممارسات الإيمانيّة، والأسرار، والصلوات، والروحانيّة التي أطلق عليها لوسكي عبارة «الصوفيّة» في عنوان أحد كتبه. فوحدة الكنائس الأرثوذكسيّة والتي تجعلها كنيسة واحدة - الكنيسة الأرثوذكسيّة - هي بالضبط في وحدة ما ذكرته قبلًا. هذا هو التقليد، أي تراكم الكشف وترجمته عقائديًّا وممارسةً وروحانيّةً، وهو الذي يوجد في الكنائس الأرثوذكسيّة كافّة. لهذا، يشعر الأرثوذكسيّ، كما حدث معي في البلدان التي زرتها وأُتيح لي أن أحتفل بالقدّاس الإلهيّ فيها وأجلس إلى بعض مؤمنيها وإكليرُسها، بأنّه في بيته، بأنّه مرتاح وهانئ في البيئة الكنسيّة التي هو فيها لأنّها جزء أو امتداد لكنيسته هو.

لكنّ بعض الممارسات الطارئة والفرعيّة وبعض «الآراء اللاهوتيّة» بدأت تشقّ طريقها في بعض البيئات الكنسيّة ليجري تثبيتها وتبنّيها من قبل البعض على أنّها جزء من التقليد الشريف، فيما لا ضير من اختلاف في الممارسات في بعض البيئات، وفي تقبُّل حرّيّة البعض في التعبير عن فهم لبعض الأمور أو لمناقشة بعضها، وهذا بالمبدأ أمر صحّيّ ومُرَحّب به. لكنّ التمسّك بها وجعلها هي الجوهر والأصل وفرضها على من لا يقبلها هو مرفوض انطلاقًا من رحابة التقليد عينه الذي قَبِلَ الرهبنة كما الزواج، والنُّسك كما الحياة في العالم، في تنوّع متآلف لا تضادّ فيه. هذا، إضافة إلى قساوة بعض الآراء اللاهوتيّة التي تغزو بشكل متزايد كنائسنا، وتجرّ البعض إلى ضيق أفقها وانغلاقها، ومنحى هرطقة كلّ من لا يقبل بها، وهذا خطر كبير جدًّا. هذه «تقاليد» وليست بالضرورة من «التقليد»، ومطلقوها ومن يتبنّاها هم، من حيث يدرون أو لا يدرون، يبثّون سموم الحقد والانغلاق وروح الإدانة وضيق الأفق في نفوس من يتلقّفونها. هؤلاء، مثلًا، يؤثرون الشكل على المضمون والظاهر على الروحانيّة الحقّ ولا يمانعون بقلّة عيش روحانيّة التقليد على حساب المحافظة على ما يعتبرونه فهمًا احتكاريًّا للأرثوذكسيّة.

أعتقد أنّه من واجبنا أن نصوّب على هذا الأمر للحفاظ على كنيستنا ناصعة بهيّة وعلى ولؤلؤتها التي هي التقليد المقدّس الذي يختزن في كنوزه عصارة ما تراكم فيه من قداسة وجمال تعبير. 

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search