مجلة النور العدد الأول – 2023
الحياة الكنسيّة حياة أخويّة. هي، في تفاصيلها، ترجمة للوصيّة العظمى «أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم» (يوحنّا ١٣: ٣٤) التي لها امتدادها في الحياة، في دعم الآخرين في الفرح والحزن (رومية ١٢: ١٥)، في دفعهم إلى الثبات في أنّ الربّ هو فرحنا الدائم (فيليبّي ٤: ٤). إنّها الدعوة الباقية إلى أن نهدم، في القول والفعل، جدار الغربة بإقبالنا على اعتبار الآخر أخًا حقيقيًّا لنا، من لحمنا ودمنا.
لا أريد أن أقدّم نفسي مثلًا. لكن، يمكنكم أنتم أن تقدّروا أنّ الكهنة، الذين يحيون في وسط الكنيسة، يعرفون أشياءَ كثيرةً عن أهلها. يعرفون عن الأفراح. يعرفون عن الأحزان. يتحسّسون الدموع وأسبابها أحيانًا باعتراف وأحيانًا من دون اعتراف. القربى بلاغ. لا أقول إنّهم يعرفون عن جميع العيون التي تذرف، بل يعرفون منها عيونًا كثيرةً لا سيّما العيون الصديقة. الكلام على الحياة الأخويّة لا يصيب عمقَها، إن كان مَن بعيد. لا أعتقد أنّ هناك في الكون كلّه مكانًا يوازي الكنيسة في قدرته على جعلك شاهدًا على الفرح والتوبات التي يكشفها اللَّه باستمرار لخيرنا وإصلاحنا، ومن شركاء الدموع.
الذي أردتُهُ إلى الآن أن أؤكّد علنًا أنّ ما أكتبه اليوم، (بل في كلّ يوم)، لم أقتنِ حبرَهُ من مكتبات خاصّة، بل من الصداقة. العالم في أزمة. كتبتُ مرارًا عن الذين هاجرونا إلى بعيد. قلبي معهم. كنتُ أعتقد أنّهم تركونا مع إرث أحزان على غيابهم وعلى ما كنّا نطمح إليه معًا. الذي بات قناعتي أنّهم هم أيضًا تركونا من حزن إلى حزن. كيف نكسر الأسف وما كنّا نتمنّاه بشركة الصلاة الراجية؟ هذا خصب الصداقات.
الآن، تعنيني دموعنا الباقية التي تبحث عن شركاء لها. لا أطلب إضافة الدموع إلى الدموع، بل فهمها من أجل أن نعمل، بخدمة مباشرة، على كفكفتها، إن أمكن. عندما تكلّم يوحنّا الرسول في رؤياه على اللَّه الذي سيمسح دموعنا في يومه (٧: ١٧)، كان يريد أن نعلم من جهة أنّ اللَّه موجود في كلّ معاضدة، بل يمكننا أن نشارك نحن في عمله الأخير، الآن وهنا. لكنّه، من جهة ثانية، كان يبيّن أيضًا أنّ هناك دموعًا قد تبقى إلى النهاية، إن لعدم علمنا بها أو إهمالنا لها أو عجزنا عن مسحها... أتكلّم، قبل أن أنصرف إلى التخصيص، على دموع الناس جميعًا، من دون أن أنظر إلى دينهم أو موقعهم في العالم أو في الكنيسة. ذكرتُ صداقاتي. إذًا، الدموع، التي يأخذني التركيز عليها في هذه السطور، هي موثّقة، إن استطعتم أن تصدّقوا.
أعتقد أنّ الأيّام علّمتنا ألّا ننتظر من العالم ما لا يعطيه. العالم صراعات. لا ينتظر الفقير أن يعطف عليه عالم منشغل في صراعاته. عندما انفجرت بيروت قبل سنتَين ونصف السنة، اندفق المُحبّون إليها كالسيل من غير مكان. لا تستطيع المحبّة أن تنتظر حركة المؤسّسات أو أن تخضع لها. لا أقول إنّ «لبنان» تنكّر لمسؤوليّاته. قلتُ ما قلتُهُ. أعرف أنّ الملتهي بالصراعات لا يمكنه أن يقدّم للناس رؤًى أو حلولًا لمشاكلهم. نبقى نحن الناس البسطاء الذين لنا في الحياة في هذه الأمداء رغبة وقصد. كيف نحيا، ونساعد بعضنا بعضًا على أن نحيا معًا؟
سأخصّص. عندي خوف، يتزايد من يوم إلى يوم، على شهادة الكنيسة في هذه البلاد. ربّما كشفتُ عن هذا الخوف من قبل هنا أو في أمكنةٍ أخرى. تعلمون أنّ الشهادة يحتاج تألّقها أوّلًا إلى خدمة الكلمة وخدمة الموائد، أي خدمة الفقراء. إذا أكملت خطّي في التخصيص، الشهادة، في أرضنا، تستحيل من دون كهنة يخدموننا. أعتقد أنّنا كلّنا متّفقون على أنّ الفقر في الحياة الكنسيّة، خيارًا، فتحهم التزامهم على الملكوت الآتي. هذا، إن خصّ الرهبان واستطرادًا الكهنة، لا يخصّ، بالدرجة عينها، عائلات الكهنة ولا سيّما أولادهم. إن فتحتُ سطوري على خدمتنا في المهاجر، لا يمكنني أن أكون دقيقًا في كلامي على اهتمام الكنائس في الخارج، أساقفةً وكهنةً وعلمانيّين، بشهادتنا في الداخل. أفترض أنّهم مهتمّون، إن لم يكن كلّهم فبعضهم أو معظمهم. ولكن، ما الذي يبقى من اهتمامهم إن احتاجوا إلى كهنة يخدمونهم هناك؟ أعتقد أنّنا لا يمكننا كنسيًّا في بيتنا الواحد أن نجد حلولًا لمشاكلنا في الخارج على حساب مشاكلنا في الداخل. أفهم كثيرًا السادة الأساقفة الذين لا يردّون كاهنًا قرّر أن يترك خدمته في ظلّ رعايتهم. ولكنّني أحبّ أن تُفحَص علنًا الأسباب التي دفعته إلى الترك، الأسباب أو المغريات! أحيانًا نتأخّر عن توافق الحاجات، الحاجة إلى كهنة في الخارج والحاجة إلى حياة مقبولة لسنا واقفين فعلًا على دقّتها.
تبقى الدموع، دموع المجاهدين في الأرض الذين هم إيقونات للجهاد لا تقلّ جمالًا عن إيقونات ننحني أمامها في اجتماعات العبادة، نتبارك بها، ونطلب إذنها قبل أن نخدم. هل يجوز أن نخدم من دون أن نُقارب إيقونات الجهاد التي أذكرها؟ القربى أنّنا نراها، ونحبّها، ولا نريدها أن تقلق من أيّ شيء. ليس هناك شيء نسعى إليه، قادةً وعلمانيّين، أعلى من أن ننحني أمام الإيقونات التي ترشح، وأن نحافظ عليها حرّةً من الانكسار. لا يكفي أن نحبّ بالكلام. لا يكفي أن نشدّد بالكلام. كنيستنا كنيسة فعل. أؤمن بأنّ اللَّه معنا!