العدد الأوّل - سنة 2023

06 - تأمّل كتابيّ: السامريّ الشفوق (لوقا ١٠: ٢٥- ٢٧) / الأب نعمة (صليبا) - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

اختار يسوع مخاطبة الناس عبر أدب الأمثال، حيث إنّ عمليّة إعمال العقل للوصول إلى لبّ المثل هي عمليّة سهلة. إلّا أنّها تفتح الأفاق واسعة أمام التأمّل في ثناياه للوصول في نهايته إلى المزيد من أدبيّات الحكمة، والتمييز بين مختلف نواحي الحياة.

إلامَ يدعونا الربّ عبر هذا المثل؟ الجواب سريع، ومباشر، أن نعمل الرحمة على مثال هذا السامريّ. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا المثل كان مصدر إلهام لكثيرين، ومحرّضا إيّاهم على القيام بأعمال الخير والرحمة، بخاصّة مع أناس غرباء لا يعرفون عنهم شيئًا سوى أنّهم بحاجة أو في ضيق وعوز.

هناك قانون يحمل اسم «قانون السامريّ الصالح»، وهو الذي يحمي كلّ شخص لا يتمتّع بخبرة مهنيّة مختصّة، وسبق فأقدم على مساعدة شخص ما في حالة خطرة، ولكنّه سبب ضررًا إضافيًّا عند إقدامه على هذه المساعدة، كأن يهبّ أحدهم لإطفاء حريق، ولكنّه يلحق الضرر بنافذة أو باب اضطرّ إلى كسره للعبور إلى من هو بحاجة إلى عونه. وأيضًا يُستلهم هذا النصّ للحديث في ميدان الحوار بعامّة، وفي علاقة المسيحيّ بغيره من الناس بخاصّة، حيث القاعدة القائلة بأنّ أفراد البشريّة هم أقرباء بعضهم لبعض، ما يبعد الفكرة الحقوقيّة العالميّة عن لغة الحوار المسيحيّة المعرّفة بمبدأ المختلف عنّي يكنّى بــ«الآخر». والفرق شاسع في درجة المنطلقات وسهولة البلوغ إليها، فالتواصل مع شخص لا أعرفه، ولكنّه قريب لي يعتبر أسهل وأكثر حماسة من التواصل بيني وبين شخص آخر لا تربطني به أيّة عبارة من مفردات القاموس العائليّ كالأخ وابن العمّ.

يقع نصّ السامريّ وسط أحجية أكبر تبدأ ملامحها من (الآية 21)، حيث يحمد يسوع الآب لأنّه كشف سرّه للصغار، وأخفاه عن الأذكياء والحكماء، وتلحق به، أي بنصّ السامريّ، أحجية أخرى في (الآية 41) حيث قصّة مريم ومرتا، والتي فيها يفاضل يسوع بين المرتبك بأمور كثيرة بينما هو محتاج إلى أمر واحد. إذًا نحن أمام مستويات للكشف عدّة، والقصد ليس هوذاته الهدف الظاهر من هذا المثل.

أين أجد نفسي من هذا المثل؟

القراءة الأوّليّة للنصّ تأخذنا باتّجاهٍ واحدٍ، وبعفويّة فطريّة لتدعونا إلى التمثّل بهذا الذي صار قريبًا من الذي وقع بأيدي اللصوص. إلّا أنّ شخصيّة السائل الفرّيسيّ والتي تحمل في طيّاتها السلبيّة تفرض علينا التريّث قليلًا.

 يرشدنا فنّ الإيقونة إلى اتّجاه آخر، لا بل ويمكننا القول، يرشدنا إلى اتّجاه معاكس، إذ نجد الربّ يسوع هو نفسه السامريّ الصالح! وإذا ما أردت أن أبحث عن مكان لي، فليس أمامي سوى أن أكون، أنا هذا الـمُلقى على هامش الطريق، والذي تعرّض لضربات قاسية لا ترحم، فأمسى بين الحياة والموت، ينتظر مرور من يخلّصه. لم يتوسّع النصّ في إبراز شخصيّة هؤلاء اللصوص بقدر اهتمامه في إبراز حالة العدم التي وصلت إليها الضحيّة، وهنا أذّكر نفسي بالقاعدة التي تدعونا عند قراءة النصّ الإنجيليّ إلى التموضع في الشخصيّة الأكثر هشاشةً أو ضعفًا، للارتقاء عبرها إلى المكان الأفضل الذي اختاره يسوع لنا.

علينا ألّا ننسى أنّ معلّم الشريعة الذي من أجله روى يسوع المثل، أتى «متزاكيًا» ومجرّبًا إيّاه، ومحاولًا إحراجه. وهذا الموقف واضح وصريح من بـدء الحديث! فهل يعقل أن يكون مفتاح الحياة الأبديّة على هذا المستوى من السهولة؟ طبعًا يسهل على من استكان لوضعه الروحيّ، وبات يرى نفسه في موقع القوّة أن يتماهى مع الشخصيّة الأكثر جرأة والأقوى والأفضل في النصّ، أي شخصيّة السامريّ، وأن يبتعد عن شخصيّة المريض والضعيف والمتروك، ولهذا علينا أن نفكّر مرّتين عند قراءة هذا المثل.

يسوع لا يجاوب المتزاكي، وإنّما يطرح عليه الأسئلة «ماذا كتب في الشريعة؟ كيف تقرأ؟ فمن كان برأيك من هؤلاء الثلاثة قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟» يسوع باستعماله هذا المخطّط إنّما يريد من السائل أن يقدّم بنفسه الجواب عن سؤاله. فيكون بهذه الطريقة قد قطع عليه الطريق، وأفشل مخطّطه باستدراجه لاتّخاذ موقف يراد به إمساك يسوع بكلمة. استعمل يسوع هذه الطريقة مرّات عدّة في غير موضعها، ولعلّ أشهرها ما ردّده أمام المجمع، إنّك «أنت مـن يقـول إنّي أنا ابن اللَّه» وأيضًا أمام بيلاطس حيث قال له: «أنت من يقول إنّي ملك اليهود»!

أنا هو الإنسان الذي ابتعد عن مدينة السلام أورشليم، وسار باتّجاه أريحا مدينة التجارة والمال، فوقعت بين اللصوص، ولم أجد من يعينني من المقرّبين (الكاهن، واللاويّ)! والخلفيّة المحرّكة لهذه الصورة تبرز أنّ النجدة تأتي من الله، لا من علاقة قربى دينيّة أو إثنيّة.

الثنائيّة علامة تستعمل للتأكيد على صحّة الشهادة في المحكمة. وما رأوه من حالة مزرية تقابلها ثنائيّة من نوع مختلف، هي ثنائيّة الزيت والخمر. وهنا علينا التنبّه إلى هذا الترتيب الذي يعرضه لوقا، والذي يقدّم فيه استعمال الزيت - المبلسم للجروح - على استعمال الخمر المطهّر لها، والمخالف للإرشادات الطبّيّة المتّبعة التي تفرض عمليّة تطهير الجرح بالخمر أوّلًا قبل صبّ زيت الزيتون عليه لحفظه من الالتهاب، فالزيت يخلق طبقة عازلة بين الجرح والبيئة المحيطة به من أجل شفاء أسرع. هذا الترتيب لاستعمال الدواء الناجح إنّما يدفعنا إلى قراءة مغايرة عن مجرّد ذكر لأدوية علاجيّة هي في متناول الجميع. لذا عليّ هنا العودة إلى الكنيسة حيث أشاهد ما يوافق لوقا على عرضه فنمسح بالزيت المقدّس علامة للتوبة ولصحّة النفس والجسد (سرّ الزيت المقدّس)، ومن حافظ على إنائه ممتلئًا بزيت الفضائل، فذاك يدخل إلى خدر العريس حيث الخمر، الذي هو الرمز الأوّل لوليمة العرس (سرّ الإفخارستيّا). التدرّج من الزيت إلى الخمر، نجد فيه ردًّا لجميلٍ يعالج فيه يسوع حالة الفرّيسيّ المتخبّطة، ودعوة صادقة له، عطيّة مقدّمة مجّانًا من المسيح للجميع، فيسوع إنّما أتى ليخدم لا ليدين العالم.

أثنى يسوع على ما توصّل إليه الفرّيسيّ من استنتاج للهدف الكامن وراء هذا المثل. لكن كيف يمكننا التوفيق بينه وبين ما يقدّمه يسوع له من نصيحة؟ يسوع يدعو الفرّيسيّ، ويدعونا نحن اليوم إلى أن نعي واقع حياتنا المبتعدة عن الربّ، وإذا لم نع ذلك فمساعدتنا إلى من هم بحاجة سيعلّمنا وسيعطينا الشجاعة فنقرّ ونعترف نحن أيضا بضعفاتنا. وببعدنا عن اللَّه، ترانا نعلن واقعنا الأليم، وننتظر أختًا أو أخًا يرسله اللَّه إلينا فيشفق علينا ويتحنّن ويبلسم جراحنا ويرافقنا في عمليّة الشفاء ولا يبخل علينا بأمر نحتاج إليه فيه.

اللَّه والمال

كيف لي أن أتيقّن النعم الظاهرة وغير الظاهرة -كما نردّد في القدّاس الإلهيّ - فأشكر اللَّه شكرًا لائقًا عنها؟ المثل يوضّح لنا الطريق المرتكز على الابتعاد عن أيّ مساعدة أرضيّة سواء أتت من مال أو من شخص ارتبط به بعلاقة مميّزة. والسبب وراء ذلك هو عدم قدرتي على أن أخدم سيدين الله والمال. فإمّا أن أحبّ الواحد وأبغض الآخر، أو أن ألتزم الواحد وأزدري الآخر. هذا لجهة المال الذي يشكّل دائرة أمان أساسيّة من أخطار الحياة، أمّا لجهة الحصول على مساعدة من أصدقاء مقرّبين فالعبرة لا تكمن في رفض هؤلاء الأشخاص بل على العكس: فالنصّ الذي نتأمّل فيه إنّما يحضّنا على بناء المزيد من شاكلة هذه العلاقات. إذًا العامل الفاصل بين الاثنين، أي بين الله العامل فيمن أعتبرهم أقربائي واللَّه العامل فيمن لا يربطني بهم أيّ رباط أصيل، إنّما يقوم على قدرتي على رؤية يد اللَّه العاملة معي، وهي من أسهل ما يمكن التنبّه إليها عندما تأتي النجدة من حيث لا أتوقّع أو ممّن لا يتوقّع منه البتّة مساعدتي، أقصـد به العدوّ «السـامريّ بالنسبة إلى اليهوديّ». ولذلك، ففي الحالة الأخيرة تراني أشكر اللَّه وأمجّد الخالق لا نفسي.

كلّ من يريد أن يبني علاقة مع يسوع سواء أكان تلميذًا أم شخصيّة لها مطلب محدّد عليه أن يتخلّى عن المال بطريقة أو بأخرى. حتّى المرأة النازفة الدم نراها أنفقت كلّ معيشتها على الأطبّاء! وزكّا تعهّد برد المال أضعافًا والتلاميذ أوّلًا تركوا مصدر رزقهم وتبعوا يسوع وحرص يسوع عن الابتعاد عن لمس المال فكان يهوذا الإسخريوطيّ أمين صندوق.

استعمل يسوع في المثل عبارة لصوص أي أكّد على أنّ الملقى بجانب الطريق أصبح لا يحمل أي شيء من المال، فسارقوا المال والثياب نجحوا في مسعاهم، ولا نستطيع أن نستفيد من حضور الكاهن واللاويّ إلّا من أجل إثبات واقعة فقر الحال هذه. أمّا لناحية السامريّ الشفوق فيكفيه بسالة أنّه أنقذ حياة إنسان مهمل واعتنى بأمره. أضف إلى هذا أنّ النصّ يغمز أيضًا لناحية أخرى، وهي ترفّعه عن المال عبر تأريخه في الغد، هو الذي دفع دينارين لصاحب الفندق وتعهّد بالدفع لاحقًا فوق ما يزيد عن ذلك، وهذا ما يجدّد التأكيد على أنّ الرسالة الضمنيّة التي أراد يسوع إيصالها لهذا المعلّم الفرّيسيّ هي في أن يبيع ما له ويتصدّق به على الفقراء ويتبعه. وهذا ما يؤكّده لوقا، الذي عاد في الاصحاح 18، وأورد السؤال عينه ولكن على فم معلّم آخر وهناك كان ردّ يسوع لا بمثل وإنّما بكلام مباشر، بع كلّ مالك ووزّعه على المساكين وتعال اتبعني.

كثيرة هي الشخصيّات التي تحرّكت لتصل وتعود راجعة من عند من أصابه الوقوع من دون أيّ فعل يذكر إلّا أنّ الحاجة كانت إلى واحد وهي عمل الرحمة.

كثر هم المتألّمون بصمت والمجروحون في مشاعرهم. وعامل رؤية المحتاج بالعين المجرّدة قد لا يتحقّق في كلّ الأحوال. لذلك، فنحن نحتاج إلى ما يمكن إضافته إلى حاسّة النظر. ونجد، في هذا النصّ، أنّنا نحن، ولا أحد سوانا، نحتاج إلى عامل «الحنان» الذي يساعدنا على الانحناء وسبر أغوار النفس، فنجد الإنسان في عريه حقيقة، ونعرف نوع المساعدة التي يحتاج إليها، وما مدى قدرتنا على تلبيتها. وعند انتهاء تقديم المساعدة علينا ألّا نطيل المكوث عنده. فعند تيقّننا أنّه أصبح بسلام، علينا أن نذهب عنه لينمو هو في الكنيسة- المستشفى (الفندق) فنهبّ من جديد لملاقاة مشلول آخر ينتظر يسوع منّا مداواة جراحاته.

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search