العدد الأوّل - سنة 2023

07 – ذكرى: حبيب المسيح طوني بيطار يرقد بسلام / غسّان الحاجّ عبيد - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

 

أخي القارئ،

ما ستقرأه في هذه العجالة لم أكتبه أنا؛ كتبه طوني بنفسه، بمداد من سيرته، وما أنا إلّا ناقل. أنقل عن طوني ما كتبه هو لقناعتي بأنّه «لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال بل على المنارة، ليضيء...» (متّى 15:5). أنقل عنه وأستميحه عذرًا، لأنّي مدركٌ أنّني ربّما هتكت بهذا مروءته. فطوني لم يحبّ الأضواء، وقد اختار أن يكون، دومًا، تحت المكيال؛ اختار التواري، اختار الخفية فلا يراه إلّا «الذي يرى في الخفية ويجازي علانية» (لوقا ١١: ٣٣). وقد كان هذا المسرى عنده تواضعًا سيّج به فضائل أخرى حباه إيّاها ربّه؛ فهو تعلّم من الآباء العظام، لا سيّما القدّيس يوحنّا السلّميّ، أنّ التواضع هو سياج الفضائل كلّها. جعل طوني نصب عينيه قول يوحنّا السابق: «ينبغي أنّ ذلك (أي المسيح) يزيد وأنّي أنا أنقص» (يوحنّا ٣: ٣٠). قـول السـابق هذا كان عنده مبدأً ونهج حياة، وقد نسج على نوله سيرته، فكانت هذه تمتمات قداسة... وبعد؛

مساء يوم الأحد الواقع فيه 4/12/2022 اتّصلت بزوجته أختنا إيرين كوتيّا مطمئنًّا إليه بعدما بلغني أنّ حالته الصحّيّة تدهورت على نحو طارئ استدعى نقله، مجدّدًا، إلى المستشفى. أجابتني إيرين بكلمتين، ثمّ قالت لي: «سأحوّل الخلويّ إلى طوني لأنّه مصرٌّ على التحدّث إليك». كلّمني بصوت متهدّج جدًّا يبدو من وقعه التعب الشديد. حاولت أن أختصر معه الكلام لئلّا أزيد على تعبه تعبًا، لكنّه أصرّ على المتابعة. وكان، كلّما حاولت أن أشدّده، يسبقني هو إلى ذلك. عظيمًا كان طوني في إيمانه ورجائه، وعظيمًا كان في اتّكاله على اللَّه. وفي هذا نقل إليّ عنه أخٌ لنا مقرّبٌ إليه جدًّا أنه قال له مرّةً، بعدما علم بمرضه، «يا أخي فلان، أنا لست بخائف أبدًا. أنا أصدّق، كلّيًّا، كلام الربّ، وأؤمن بأنّ ما ينتظرني فوق – إذا كانت هذه مشيئة اللَّه – هو الجمال الحقيقيّ والراحة التامّة». وعندما انتهت المكالمة بيني وبينه استودعته سلام اللَّه، وأقفلت الخطّ، وكان هذا آخر تواصل بيني وبينه.

صباح الثلاثاء الواقع فيه 6/12/2022 بلغني نعيه على رجاء القيامة والحياة الأبديّة. أمسكت دموعي وقلت «ليكن اسم الربّ مباركًا». لم أتوقّع أن يرحل طوني هكذا سريعًا. فمع أنّ ميلاد ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح بالجسد يقترب، إلّا أنّه لم يحتمل الانتظار. حتّى القليل من الأيّام التي تفصلنا عن لقيا الطّفل الإله بدا له بعيدًا، فاستعجل اللقاء واستبق الزمان... ورحل.

ما كانت بيني وبين طوني زيارات عائليّة؛ ومع ذلك كانت العلاقة الإنسانيّة الروحيّة بيننا على متانة قلّ نظيرها. إذ جمعتنا كلمة الربّ، في كنيسة الربّ، برباط لا ينفكّ. كنّا معًا، حتّى آخر نفسٍ له، نعمل في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ونجاهد على رجاء رؤية أنطاكية جديدة متجدّدة، تمجّد اسم الربّ ويبقى وجهه الأكرم هو الوحيد الساطع فيها. وفي هذه الحركة المباركة تسنّى لي أن أعرفه عن كثب وأن أتعلّم منه الكثير، لاسيّما الهدوء والصّمت العامل بلا كلل ولا تذمّر، مع دوام الشّكر. كانت كنيسة المسيح هاجسه الأوحد، وكان كرْم الربّ ملعبه. فقد قضى عمره، إلى اليوم الذي أدخل فيه المستشفى، يفلح في هذا الكرم ويبذر، ويهيّئ لربّ الكرم في كرْمه زرعًا. وفي هذا الجهاد كلّه كان يعمل بخفر وانسحاق يحاكيان خفر المتقدّمين في الحياة الروحيّة وانسحاقهم، فوشّح كيانه بوداعةٍ وتواضعٍ هما قبسٌ من وداعة يسوع وتواضعه. على أنّ هذين التواضع والوداعة لم يعنيا له، يومًا، مساومةً على حقّ المسيح في كنيسته. فلقد بقي، حتّى آخر رمق، ثابتًا في هذا الحقّ، عنيدًا، صلبًا في استقامة الرأي، لا يساير ولا يهادن. هكذا خبرته، أنا شخصيًّا، وخبره معي سائر الإخوة الذين عرفوه عن قرب وعملوا معه، لاسيّما في الحلقات التي كانت تجمعنا ونتطارح فيها قضايا كنسيّة تمسّ حقّ المسيح في كنيسته وتتطلّب مواقف حازمة، صارمة، لا زغل فيها ولا تذبذب.

لم يتقن طوني فصيح الكلام، غير أنّه، بالبسيط من الكلام وقليله، أتقن اللغة التي تسمو على البلاغة والفصاحة معًا، ولا ترقى إلى رتبتها لغة: أتقن لغة الحبّ الصافي فكان، بطراوته ولطفه، يحكي كلامًا تتعطّل أمامه لغة الكلام. أحبّ فقيدنا يسوع المسيح و«إخوته الصغار» حبًّا عظيمًا، فتكرّس له وكرّس معه عائلته حتّى صحّ فيه قول الكتاب: «...أمّا أنا وبيتي فنعبد الربّ» (يشوع 15:24)؛ وبزخم هذا الحبّ كنت تراه يجوب الأبرشيّات والرعايا، من طرابلس والكورة في الشمال، إلى البقاع والجنوب، إلى سورية، يطوف فيها ويبشّر ويخدم، لا مسافاتٌ تثنيه ولا أتعاب، وذلك بنفسٍ رسوليّ يوعب قلبه فرحًا وتعزيات، ويذكّرك بقول النبيّ: «ما أجمل أقدام المبشّرين على الجبال (إشعيا ٥٢: ٧). وفي هذين التجوال والترحال كان زاد طوني الوحيد صلاةً حارّةً متواترةً وعشقًا للخدمة المجّانيّة لا يقاوم، وقبل هذا وتلك أكلةً، بل أكلات، هي جسد المسيح ودمه، يسير بقوّتها أشواطًا وأشواطًا من دون أن تكلّ له ركبة أو يهون له عزم.

عاش طوني حياته الأرضيّة كما يليق بالمسيحيّ أن يعيشها. عاشها وعينه على السماء فوق؛ فلا مباهج الدنيا أغرته ولا ضيقاتها – وهي كثيرة – أرجفته، وبالسلام ذاته كان يتقبّل تلك وهذه ويشكر اللَّه. سيّان عنده أبسمت له الدنيا أو عبست، فالبسلام ذاته، أيضًا، والشكر عينه كان يتقبّل بسماتها، إذا بسمت، وعبوسها إذا عبست. وفي هذه كلّها لم يستبدّ به القلق من الغد أو عليه، إذ لطالما سحرته الموعظة على الجبل وقول السيّد فيها لتلاميذه: «لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وما تشربون... انظروا إلى طيور السماء... أبوكم السماويّ يقوتها؛ ألستم، بالحريّ، أفضل منها؟...لكن اطلبوا، أوّلًا، ملكوت اللَّه وبرّه، وهذه تزاد لكم. فلا تهتمّوا للغد...» (متّى 25:6- 34). لم يتعلّق طوني بشيء من دنياه، ولم يدع شيئًا منها يعلق عليه. عاش في دنياه أخرويًّا وقرأها تأسيسًا لآخرته، وقرأ مدينته الفانية هذه معراجًا إلى الباقية.

ولكن، كأنّي بالأوان قد آن ليستريح المجاهد استراحة المحارب، فاستراح طوني. استراح بعد جهادٍ مرير؛ استراح بعدما حمل صليب المرض أشهرًا طويلة كانت ثقيلةً عليه ومضنية؛ لكنّه احتملها بصبر ورضًى ورجاء لا يتزعزع، فكان، في مسراه الأخير، معلّمًا وشاهدًا كما كان طيلة حياته. إنّه ينتقل عنا بالهدوء ذاته والسلام عينه اللذين نسج على نولهما حياته، واللذين تظهّرا عنده، على الدوام، في نمط عيشٍ كاد أن يكون رهبانيًّا ولو غير ديريّ. عريانًا أتى فقيدنا إلى هذه الدنيا وعريانًا يرحل عنها، حسبه منها مرضاة ربّه وسربالٌ من رحمانيّته يكون له، في آخر ترحال له ، كفنًا.

يا أخي الحبيب، لقد رحلت عنّا – هذا صحيح – لكنّ عطر شهادتك باقٍ. عهدًا يا أخي، ستبقى قائمًا في صلواتنا، وسيبقى مثالك لنا مثلًا نشكر اللَّه من أجله، ونقتدي. هنيئًا لك الإقامة، بجوار الحبيب، في راحة القدّيسين. فلقد جاهدت الجهاد الحسن حتّى صحّ فيك قول صاحب المزامير: «جعلت الربّ في كلّ حين أمامي... لذلك فرح قلبي وابتهجت نفسي؛ حتّى جسدي رقد مطمئنًّا» (مزمور ١٦: ٨ و٩). أرقد بسلام.

المسيح قام!

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search