مجلة النور العدد الأول – 2023
انطلاقة الدير (1931 - 1957
العشق الإلهيّ الذي ألهب نفوس من عطشوا إلى اللَّه الحيّ، هو ألهب نفوس الآلاف ممّن غادروا العالم إلى هذه الزاوية من بلاد اليونان إلى تسالونيكيّ، إلى «ملجأ عرائس المسيح» كما يسمّي القدّيس ثيودوروس الستوديتيّ كلّ أخويّة رهبانيّة. العودة إلى الماضي تخبرنا أنّه في العهد البيزنطيّ قام هنا قديمًا دير رجّاليّ على اسم القدّيس بندلايمون، دمّره الأتراك الذين احتلّوا تسالونيكي في العام 1430، وبعد ذلك بقي المكان مقفرًا حتّى العام 1914 حيت بدأت تسكن المكان مجموعات من اللاجئين من آسيا الصغرى، وخصوصًا في العام 1922. الأحداث قادت الكثير من الروميّين إلى تسالونيكي وخصوصًا إلى منطقة أرساكلي، بانوراما الحاليّة. جلبوا معهم مقدّساتهم وأشياءهم الأغلى، ولكن بالأخصّ جلبوا معهم موسيقاهم وأغانيهم، والأهمّ من الكلّ كان شوقهم إلى إعادة إحياء تقليدهم الرهبانيّ.
المنطقة كانت جبلًا قاحلًا مع بعض الأبنية المتفرّقة التي بقيت من الإنكليز والفرنسيّين من أيّام الحرب. ورغم البرد القارص، بدأ عملهم الشاقّ بجمع الصخور لبناء بيوت لهم، والأهمّ لبناء كنيسة.
هناك، في موضع تحت شجرة وجدوا صخرة عليها صليب وبقربها ينبوع ماء. هذه العلامة كانت بالنسبة إلى الكاهن القدّيس سمعان (اللاجئ معهم) علامة لا تخطئ على أنّه كان هنا في الماضي كنيسة أو دير، والذي كان واجبًا مقدّسًا عليهم أن يعيدوا بناءه. هكذا اتّحدت صلوات الرهبان الشهداء من دير القدّيس بندلايمون مع الشوق المقدّس للاجئين لكي يتحقّق الرجاء، وهو أن ينقلوا تقليدهم الرهبانيّ أيضًا إلى موطنهم الجديد. هكذا بدأت المحاولات لإنشاء كنيسة على اسم أمّ الإله وأمّ كلّ الموجوعين. تركوا بيوتهم نصف مبنيّة وأعطوا كلّ ما يملكون لبناء الكنيسة.
قبل مرور عشر سنوات من وصول اللاجئين إلى البانوراما (هكذا تسمَّت المنطقة بدءًا من العام 1930 بسبب موقعها الفريد) وصلت، وكبركة من اللَّه، ثلاث راهبات. الأمّ الرئيسة نينا، الراهبتان مركيلا وخريستينا، واللواتي كنّ من أخويّة الأب القدّيس جاورجيوس كارسليذيّ، الكاهن والأب الروحيّ القدّيس من البنطس الذي أقام في منطقة دراما. وهكذا أنشأ السكّان بمجهودهم وتقدماتهم للراهبات بيتًا صغيرًا وكنيسة بجانبه. نبع الماء الموجود كان بالنسبة إليهم ماء مقدّسًا من أمّ الإله القدّيسة. بتدبير من الله، أحضرت الراهبات معهنّ أيقونتين عجائبيّتين، الينبوع المحيي ورقاد السيّدة. وهكذا آمن الجميع بأنّ العذراء مريم قد اختارت حديقتها، ومن هنا أخذ الدير هذا الاسم المزدوج «دير الينبوع المحيي ورقاد والدة الإله».
شملت قداسة الأمّ نينا كلّ المؤمنين، الذين اعتادوا اللجوء إلى الدير، السند العظيم والتعزية. وجدوا فيها إنسان اللَّه الذي استمع إليهم وأنارهم بمثاله المقدّس. بتعاليمها المتواضعة وخبرتها، ولكن بالأخص بصلاتها، وُجدت سندًا لهم في درب صليبهم وتعزية في أحزانهم وحتّى طبيبًا لهم في أمراضهم، بفعل نعمة اللَّه الساكنة فيها.
لكن للأسف سنوات خدمتها في الدير كانت قليلة، إذ غادرت هذه الحياة في نهاية العام 1938. يصف سكّان البانوراما القدامى كيف أنّه لمدة طويلة بعد رقادها كان نور إلهيّ غريب ينير قبرها دلالة على مسرّة اللَّه بحياتها المقدّسة.خلفتها على رئاسة الدير الأمّ بيلاجيا، ولكن بسبب الحرب التي قامت السنة 1940، مع انطفاء السلام انطفأت الحياة الرهبانيّة في الدير فأقفر في فترة زمنيّة قصيرة.
حتّى العام 1946 كان الدير معروفًا على أنّه «منسك نسائيّ». وقتها، على عهد جناديوس ميتروبوليت تسالونيكي، تحوّل المنسك بأمر ملكيّ إلى دير تحت تسمية «رقاد والدة الإله». بقي بهذا الشكل حتّى العام 1952، حيث تحوّل مجدّدًا إلى دير رجّاليّ، الأمر الذي بدا مناسبًا أكثر بسبب طبيعة المنطقة بين الغابات، ولكن بسبب غياب الموارد البشريّة لم يستقبل رهبانًا قطّ. هكذا بقي هذا المكان المقدّس مقفرًا حتّى العام 1957.
تاريخ الدير الحديث (1957 – 1985)
السنوات التي تلت الحرب أحضرت معها الكثير من الأفكار والعادات الغربيّة العالميّة التي لم تتّفق مع عادات المجتمع اليونانيّ وأخلاقيّاته، الأمر الذي أقلق السكّان المحلّيّين. في الوقت عينه، السلام الذي عمّ أعطى الفرصة للشعب اليونانيّ لكي يستعيد صحّته النفسيّة والمعنويّة والروحيّة، والحياة الرهبانيّة كانت بالفعل قد بدأت تعيد مدّ جذورها في كلّ اليونان، وخصوصًا بعد الخبرة الروحيّة العظيمة التي قدّمها القدّيس نكتاريوس. بدأ الحديث بجدّيّة في كلّ اليونان عن الحاجة الملحة إلى وجود الرهبنات النسائيّة التي ستبثّ محبّة المسيح والوطن في نفوس النساء اليونانيّات، جنبًا إلى جنب مع بثّ محبّة العبادة والتقليد الأرثوذكسيّين في قلوب الجيل الجديد. والعذراء لم تتأخّر في الاستجابة لصلواتهم.
لشعب تسالونيكي المحبّ للرهبنة والعائش في ظلال الجبل المقدّس آثوس، ولمدينة تسالونيكي الملأى برفات الشهداء القدّيسين، وجود دير كان مسألة حياة. وهكذا، واستجابة لصلوات الجميع، أجلس الله على كرسيّ تسالونيكي راعيًا قدّيسًا هو المطران بندلايمون المحبّ للتقليد الرهبانيّ وللآباء، وهكذا فإنّ شوق الشعب تجسّد في شخصه، والدير الذي كان مهملًا حتّى الآن، مُنح حياةً جديدة.
في الرابع من تشرين الأوّل في العام 1957 قام المتروبوليت برسامة أولى الراهبات، الأمّ ثيودورا والراهبة مغذليني، اللتين أقامتا في خدمة الدير حتّى نسمتهما الأخيرة. مظهر الدير البائس لم يمنع الراهبات عن رؤية جمال المكان والطبيعة ولم يطفئ رجاءهنّ في إعادة إحياء حياة الرهبنة والعبادة والصلاة والقداسة.
وفي السادس من الشهر ذاته أقيم القدّاس الإلهيّ لأوّل مرّة في كنيسة العذراء الصغيرة. ذاك الشتاء كان قاسيًا للغاية وقطع الراهبات عن أيّ اتّصال مع العالم الخارجيّ، حتّى إنّ المتروبوليت أراد أن يؤجّل انطلاقة الدير إلى ما بعد عبور الشتاء، ولكنّ غيرة الراهبات ومحبّتهن للمسيح أصرّين على البقاء في الدير لأنّ «البذار يجب أن يزرع في الشتاء لكي يزهر في الربيع»، وفعلًا «لأنّ من يزرع بالبركات بالبركات أيضًا يحصد». قام رئيس الكهنة القدّيس برسامة الأمّ ثيودورا (مرغريتا) وسلّمها قيادة الأخويّة الجديدة، وهي بدورها، مشتعلة بالشوق الإلهيّ الذي اشتعل في قلبها، ومشبعة من التقليد الرهبانيّ العريق للرهبان والراهبات القدّيسين الذين لمعوا في مدينة القدّيسين تسالونيكي، وحاملة نير المسيح بصبر، رَعَتْ قطيع المسيح العقليّ بمحبّة الله، وأصبحت قطبًا استقطب نفوس العديدين وقادهم إلى المسيح الختن غير المائت.
الأمّ ثيودورا (1901 – 1985)
«مغروس في بيت الربّ إلهنا، في ساحات إلهنا يزهر... » (مزمور 14:91)
ولدت مرغريتا في بلدة موناستيري في صربيا الحاليّة في العام 1901، ومنذ طفولتها كان واضحًا أنّ نظر الربّ كان عليها وامتحنت بالألم منذ طفولتها. في سن السابعة فقدت أباها وقامت أمّها بتربيتها مع إخوتها وعملت على تربيتهم وتثقيفهم بالعلوم واللغات والموسيقى رغم فقر العائلة. في العام 1913 أُجبر يونانيّو صربيا على ترك كلّ شيء والهجرة إلى اليونان، إلى تسالونيكي تحديدًا، وتبعت ذلك سنوات صعبة بسبب الحرب والجوع والفقر والبطالة. لكنّ مرغريتا المفعمة بالمواهب عرفت بروحها كيف تعيش سنوات شبابها بمرضاة اللَّه وأن تنمّي شوق قلبها إليه، وتطوّعت في الصليب الأحمر، وأعطت للكلّ التعزية إضافة إلى عائلتها التي كوّنتها هناك. زوجها وولداها لم يكونوا وحدهم عائلتها، لأنّها بمماثلتها لمحبّة المسيح استضافت معهم في بيتها ثلاثة أيتام أُخَر، والكثير من الزائرين. بعد أن عاشت حياتها بمرضاة اللَّه ودبّرت أولادها، قادها الشوق الإلهيّ في قلبها إلى اعتناق الحياة الرهبانيّة في الدير المهجور في البانوراما، تحت إشراف أبيها الروحيّ رئيس الكهنة القدّيس.
يوم السبت العظيم في الثامن من نيسان العام 1961، أخذت الإسكيم الرهبانيّ، وللحال ابتدأت تجتمع حولها النفوس المتعطّشة إلى المسيح، التي اهتمّت الأم ثيودورا بزرع المسيح في نفوسهنّ رغم كلّ الظروف الصعبة التي أحاطت بهنّ في ذلك الزمان. محبّتها الفائقة للغرباء وتضحيتها المقدّمة على مذبح محبّة القريب وبذلها لذاتها انصبّتا نحو الكلّ، وحتّى إنّها أطعمت جنودًا خبزًا بأعجوبة من القدّيس نيقولاوس في يوم عيده وفضل عنهم الكثير. وأنقذت مع الأخوات مجموعة من الفتية علقوا في ثلج الشتاء واستضافتهم في الدير بكثير من المحبّة وأظهرت لهم المحبّة المسيحيّة الحقيقيّة. مع البناء الروحيّ للدير على صخرة وصايا المسيح، قامت أيضًا بترميم الدير وتوسيعه تحت رعاية مطرانهم وأبيهم بندلايمون الأوّل وبمساعدة دير القدّيسة ثيودورا في تسالونيكي.
في العام 1974 جلس على كرسيّ تسالونيكي المطران بندلايمون الذي تابع العمل التأسيسيّ الذي بدأه سلفه في الدير، ورعى الأخويّة بمحبّته الأبويّة واهتمامه المحبّ للرهبنة.
كانت تربط الدير علاقة وثيقة أيضًا بالجبل المقدّس آثوس الذي كان شيوخه يزورون الدير باستمرار، وكانت الأمّ ثيودورا تطلب منهم دومًا كلمة منفعة روحيّة لبناء الأخوات. كانت رسائل الآباء من الجبل المقدّس دومًا تحمل الكثير من الاحترام والمحبّة لشخص الأمّ ثيودورا بالخصوص، ولكلّ الأخويّة بالعموم، وبخاصّة أنّ مؤسّس الدير المطران بندلايمون الأوّل كان راهبًا في دير غريغوريو في الجبل المقدّس.
كانت محبّتها للخدم الكنسيّة مميّزة حيث إنّها لم تغب عن واحدة منها قطّ. اهتمّت برعاية نفوس الأخوات بواسطة القراءات الروحيّة من القدّيس إسحق السريانيّ ومن الفيلوكاليا. كانت تردّد لهم باستمرار أنّ وسائل الخلاص هي ثلاث، أوّلًا الطاعة، ثانيًا إنكار الذات، ثالثًا التوبة.
مرّ الدير بتجربة عظيمة أخرى كمنت في الزلزال بعد الكبير الذي أظهر قوّة إيمان الأم ثيودورا وثبات قلبها على صخرة المسيح. بنتيجة هذا الزلزال وتوقّع حدوث زلزال آخر، قام المطران بندلايمون بنقل الكثير من ذخائر القدّيسين في مدينة تسالونيكي إلى دير البانوراما. تحوّلت قاعة الاستقبال في الدير إلى مائدة مقدّسة حوت في داخلها ذخائر القدّيسين، غريغوريوس بالاماس، البارّ دافيد، ثيودورا التسالونيكيّة.
تعرف الشجرة من ثمارها، والراهب من تجاربه. والأمّ ثيودورا تعرّضت للكثير من التجارب وظهرت فيها شجرةكثيرة الثمر. صبرها في التجارب كان ختم حياتها التي كانت تمجيدًا للربّ وشكرًا له غير منقطع.كلّ آلامها وأحزانها كانت تسكبها عند قدمَي المصلوب الذي أعطاها القوّة والصبر في الشدائد. صبرها كان يذهل الأخوات. كانت تقول لهنّ: «يا أولادي، إنّ نفسي تلتهب من شعلة الإيمان ومن نار محبّة المسيح». هذا لم يكن ببساطة كلامًا، ولكنّه كان خبرة ثقة عميقة وإيمانًا بالله لا يتزعزع.كان صمتها، عند تعرّضها للإدانة والإهانة، عجيبًا وإجابتها كانت هي المحبّة والوداعة الإنجيليّة. كانت تقول: «أنا لا أعرف أيّ شيء آخر، أعرف فقط أن أحبّ». كانت دائمًا تشدّد على أنّ الفضيلة أسهل من الشرّ: «أتعجّب، يا أولادي، كيف يستطيع أحد أن يصنع شرًّا، طالما أنّ الخير هو أسهل بهذا المقدار».
المرشد الروحيّ للدير
كانت هناك علاقة روحيّة قويّة واحترام متبادل بين الأمّ ثيودورا وآباء الجيل المقدّس آثوس. لفترة من الزمن لم يكن للدير مرشد روحيّ، وملجأ الأمّ وقتها كانت العذراء مريم وفردوسها (الجبل المقدّس). صلّت كثيرًا للعذراء لكي ترعى القطيع الصغير. قبل رحيلها إلى السماء أراح اللَّه روحها بأن أرسل إليها بركة عظيمة من بستان العذراء، رجل اللَّه والحامل الأصيل للتقليد الآثوسيّ، الأب جاورجيوس رئيس دير البارّ غريغوريوس في جبل آثوس، الذي قبل أن يتعهّد الأخويّة روحيًّا.
رقاد رئيسة الدير ثيودورا
اقتربت نهاية حياة رئيسة الدير على الأرض. التجارب الكثيرة والأمراض والأتعاب والجهادات أضنت صحّتها الضعيفة أصلًا.
يوم الأحد في الثالث عشر من كانون الثاني، تقدمة وداع عيد الظهور الإلهيّ، كان هو اليوم الذي فيه غربت شمس حياتها الأرضيّة، لكي تشرق هناك في اليوم الذي لا يعروه مساء في الملكوت مع الثالوث القدّوس. قبل ساعة من رقادها استدعت الراهبات وأعطتهنّ نصائحها الأخيرة. كما باركت الأخت فبرونيا التي كانت ستعهد إليها بالصليب الأثقل، صليب الرئاسة من بعدها. في اليوم التالي، الاثنين في الرابع عشر من كانون الثاني للعام 1985 أقيمت الخدمة الجنائزيّة والدفن، والتي ترأسها متروبوليت تسالونيكي بندلايمون الثاني، وحضر الجنازة ممثّلون عن كلّ الأديار في مكدونية ومن الجبل المقدّس والكثير من إكليريكيّي المدينة.
التاريخ المعاصر للدير
في الثالث عشر من شباط وبقلب واحد انتخبت الأخويّة الراهبة فبرونيا أمًّا روحيّة لها وتمّ تنصيبها في يوم ذكرى الأربعين لرقاد الأمّ ثيودورة. مع الأمّ الجديدة استمرّت مسيرة الدير. وفي شهر تمّوز من العام 1994 بدأ تشييد المباني الجديدة في الدير، وذلك بمرسوم رئاسيّ. بتعب وجهد كثير وتضحيات استمرّ العمل لسنين طويلة، بمؤازرة متروبوليت تسالونيكي بندلايمون الثاني ودعمه.
حريق السنة 1997 ونجاة الدير بأعجوبة
واحدة من أعظم عجائب والدة الإله في الدير، هي حين نجت الأخويّة من الحريق العظيم الذي شبّ في صيف العام 1997 حين أحرقت النار آلاف الهكتارات من الأراضي التي حول الدير.
في اليوم السادس من شهر حزيران 1997، بعد الظهر، بدأ الدخان الأسود بالظهور والارتفاع من وراء التلة. ألسنة اللهب اقتربت بسرعة مهاجمةً الدير والقطعة العسكريّة المجاورة له. الرجاء الوحيد كان الكلّيّة القداسة. تعالت الصلوات في الدير ملتهبة أكثر من لهيب النار ذاتها، واقتراب الليل جعل عمل فرق الإطفاء أكثر صعوبة. لهذا بتوصية من المتروبوليت غادرت الأخويّة الدير بسرعة. في الصباح، كلّ الذين بقرب الدير شاهدوا ألسنة اللهيب تحيط بالدير وتحرق كلّ الأراضي حوله والدخان يخرج من كلّ أبنية الدير، فظنّوا أنّ الدير يحترق كلّه... ولكن!!! كلّ الرجال الذين كانت عندهم الجرأة أن يبقوا بقرب الدير أثناء الحريق شهدوا للمعجزة التالية: بينما كانت ألسنة اللهيب تتقدّم مسرعة باتّجاه الدير، بتغيير مفاجئ في اتّجاه الريح، شكَّلت ألسنة اللهب قوسًا ناريًّا متّجهة بالإتجاه المعاكس، مبتعدة عن الدير وتاركةً كنائس الدير وأبنيته بدون أيّ أذى. حماية العذراء هي التي حفظت الدير في أحضانها، وهي التي حمت بيتها من النار.
متروبوليت تسالونيكي كيريوس كيريوس أنثيموس
انتقل متروبوليت تسالونيكي بندلايمون الثاني، من فردوس العذراء الأرضيّ، الجبل المقدّس آثوس، حيث اعتاد أن يقضي الصيف في منسك العذراء حارسة البوّابة قرب دير إيفيرون، وذلك يوم التاسع من حزيران 2003. وانتخب الخلف على كرسيّ تسالونيكي رئيس الكهنة القادم من الألكسندروبولي، المطران أنثيموس. وهكذا كانت أخويّة الدير باستمرار تحسّ بالأمان تحت حماية وبركة رئيس الكهنة المحبّ للَّه وللرهبنة أنثيموس. وهكذا أكمل الدير مسيرته تحت حماية العذراء والدة الإله، وببوصلة تعاليم الآباء القدّيسين ومؤسّسي الدير. دفّة السفينة هي الطاعة المخلِّصة والجهاد من أجل الفضائل. راية السفينة هي تقديس النفوس. وهكذا بشفاعة العذراء «نقيم محلًّا للتائبين، مكانًا للمستنيرين، منزلًا للمتنَقّين، بيتًا لعابدي اللَّه، وبمعونة اللَّه، مكانًا للمخلَّصين»(١).
الخاتمة
مدينة تسالونيكي المحروسة باللَّه، التي تزيّنت منذ العصر البيزنطيّ بوجود الكثير من الأديار حولها، وحتّى داخل أسوارها، تستحقّ أن تتوَّجَ في أيّامنا بوجود دير مكرَّسٍ لسيّدتنا والدة الإله، حامية جميع المسيحيّين. دير رقاد والدة الإله في البانوراما هو ثمرة محبّة المسيح في نفوس الكثيرين من المسيحيّين الأتقياء، وفي مقدّمتهم مؤسّسا الدير، المطوّب الذكر متروبوليت تسالونيكي بندلايمون بابايورغيوو، والأمّ ثيودورا.
الأديار كانت دومًا توصف بأنّها أمكنة للتهذيب ومختبرات للتربية. بالفعل فإنّ الأديرة التي فيها ينسك الرهبان مجاهدين الجهاد الحسن، متّشحين باللباس المحتشم والحاثّ على التوبة، بعيش الحياة الرهبانيّة، عيش الصليب والقيامة، هي مختبرات لاكتساب الفضائل الإنجيليّة. تبقى عين نفس الراهب دومًا يقظة، من دون نعس، وذلك لكي يتخلَّص ممّا لا يرضي اللَّه ولكي يحقّق ويعمل فقط ما هو مرضيّ لديه
بتواضع جزيل، وبصلوات رئيس الكهنة المحبّ للَّه راعي تسالونيكي أنثيموس، الذي يحضن الدير الشريف بمحبّة أبويّة وحنان كبيرين، أصلّي وأطلب من أجل دير رقاد السيّدة في البانوراما أن يبارك اللَّه ويقوّي ويقدّس الأمّ الرئيسة فبرونيا الجزيل برّها مع أخويّتها في المسيح، لكي يكملن جهادهنّ المرضيّ لله في الكمال الرهبانّي، مترجّين دومًا مجد اللَّه المثلّث الأقانيم، ومقدّمين للعالم المعاصر المتألّم، بصمتٍ وتواضع، الشهادة لقوّة ونعمة صليب وقيامة ربّنا القائم من بين الأموات.