مجلة النور العدد الأول – 2023
أتطرّق في هذه العجالة إلى موضوع الخدمة على خلفيّة توزيع المواهب بعامّة، وإلى خدمة المرأة داخل الكنيسة بخاصّة. ولكيّ أتوسّع في هذا الموضوع، بالنسبة إليّ، لا مرجع سوى الكتاب المقدّس بجزئيه ولاسيّما العهد الجديد. لأنّه كما نعلم لا يُقرأ العهد الجديد إلّا على قاعدة العهد القديم، ولا يُدرك العهد القديم إلّا بنور المسيح الذي يتراءى بين أسطره، وما عداه ناموس معقّد وعسير، وتاريخ مفعم بالحروب والقتل والنار والدماء. جمال العهد القديم بأنبيائه ومزاميره ورحمة اللَّه التي تتخلّله، والتي تسامح وتؤدّب وتحثّ على التوبة.
قد يعتقد البعض أنّ الخدمة تقلّل من شأن المرء، فتعتبر مذلّة مهينة ومحطّمة للكبرياء وعزّة النفس. قد يرى أناس أنّ الخدمة تحطّم الشخصيّة وتدعو إلى الانحناء أمام الآخر، وأنّ الشخص الذي يخدم إنسان ضعيف ولا حول له ولا قوّة. ألم يستغلّ البعض خدمتنا إيّاهم طمعًا في المزيد من التضحية، وتحميلنا أكثر ممّا نستطيع تقديمه. هنا ينبغي التمييز بين إنسان يستحقّ الخدمة وإنسان متعجرف طمّاع يستفيد من اندفاعنا لتحقيق مآربه. ألم يقل السيّد لا تُعطى الدرر للخنازير؟ فالذي لا ينظر إلى الخدمة إلّا لكونها استفادة له لا يستحقّ سوى التأديب لأنّه خبيث ولئيم وصاحب مصلحة. أمّا الكريم فأنت تكتسبه إلى المسيح وتوجّهه نحو المحبّة وتجعله يعيش في كنف رحمة اللَّه وضمن هدوء الثالوث. علينا أن نحكم على كيفيّة الخدمة، وإلى من نوجّهها، ألم يقل السيّد «ها أنا أرسلكم كغنم وسط ذئاب ؟ فكونوا حكماء كالحيّات وبسطاء كالحمام» (متّى 10: 16)، وفي مكان آخر يضيف وأقوياء كالأسود. الربّ لا يتخلّى عنّا بواسطة روحه القدّوس، وهو يرشدنا إلى الكلام: «لأن لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم الذي يتكلّم فيكم» (متّى 10: 20)، وإن لم يقبلوا كلامكم «اخرجوا خارجًا من ذلك البيت أو من تلك المدينة وانفضوا حتّى غبار أرجلكم» أي الغبار العالق من أرض تلك المدينة.
الخدمة عطاء ومحبّة
الخدمة عطاء، لكنّ هذا العطاء لا يأتي من داخل الإنسان، إنّه نعمة من فوق كما ورد في رسالة يعقوب: «لأنّ كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة هي منحدرة من العلاء من لدنك يا أبا الأنوار» (1: 7). يعطي الإنسان إذا استمدّ الخير من اللَّه ووزّعه على الآخرين، وهكذا يكون اللَّه وحده هو المعطي. ولذلك، على المؤمن أن يفتقر إلى اللَّه، كما علّم السيّد في التطويبات «طوبى للمساكين بالروح». يعني أنّك فقير بروحك إلى موهبة الربّ. أنت لا تملك شيئًا ممّا عندك. كلّ شيء نعمة لأنّ الفقير وحده يأخذ وينتظر العطيّة. إذًا انت لا تعطي إلّا ما أخذته من اللَّه، وإلّا يكون عطاؤك عقيمًا، وهذا يفسّر ما يقوله الكاهن في القدّاس الإلهيّ «التي لك ممّا لك ونحن نقدّمه لك». عمل الإنسان هو أن ينمّي تلك النعم وتلك المواهب بمجهوده الخاصّ، ولا يبقى مكتوف اليدين بل يعمل ويجاهد ويدرس كلمة اللَّه التي انسكبت في الإنجيل. على الإنسان أن يفتح قلبه وذهنه لكي يتقبّل هذه العطيّة وينمّيها. عليه أن ينفتح لكي ينال هذا العطاء السخيّ فيستطيع هو بدوره أن يعطي بسخاء حقيقيّ متمثّلًا بالسخاء الإلهيّ الذي يعطي مجّانًا وبلا حساب.
وهب اللَّه الشريعة بواسطة موسى، لكنّ الأنبياء علّموا بأنّ الشريعة باطلة ما لم يتّخذ المرء قلبًا جديدًا، قلبًا من لحم لا من حجر. فإذا كان القلب رديئًا لا مجال لتفعيل الشريعة. هذا كان في العهد القديم إلى أن أتى يسوع فكتب يوحنّا البشير: «الناموس بموسى أُعطي أمّا النعمة والحقّ فبالمسيح حصلا». جسد المسيح هو النعمة والحقّ. ولذلك أراد أن يعطينا هذا الجسد لكي نأكله. وعندما نأكل الطعام يصبح هو جسدنا. وبهذه الطريقة نتّحد بالمسيح فنردّد ما قاله بولس: «لست أنا أحيا بل المسيح يحيّا فيّ»، وهذا كلّه يتحقّق بالإيمان. هذا ليس بعصا سحريّة، فنحن نساهم في تلك العمليّة بإيماننا. ألم يقل السيّد إنّ المطلوب هو «الإيمان والعدل والرحمة»، فأوجز عناصر الحياة المسيحيّة التي تؤلّف أساس الصرح المسيحيّ.
الخدمة
إذا سئلت عن الأمور التي تستطيع المرأة أن تقوم بها في خدمة الكنيسة أجيب بأنّه إذا وُضعت لها خطّة واضحة تكون في إطار الناموس الذي يأمر وينهي. المرأة كالرجل ألم يقل بولس الرسول «المسيح الكلّ وفي الكلّ». المرأة تتلقّى النعمة في داخلها وتنمّيها، والنعمة هي التي توجّهها وترشدها إلى الطريق، وتعلّمها كيف تخدم وكيف تعطي. تملك المرأة طاقات كبيرة للعطاء وعليها أن تستغلّها. كيف لا وهي التي تملك رحمًا يضمّ الأولاد وبهذا تتشبّه باللَّه الرحيم. من سواها يتحمّل آلام المخاض؟ فتعرف قيمة الجنين وتعطيه بلا حساب حتّى إنّها تستعدّ للموت في سبيله.
يسوع أحبّ المرأة ورفع من شأنّها، وسمح لها بأن تتبعه من الجليل حتّى آلام الجلجلة. استقبلها عند القبر الفارغ لكي يلقّنها عظمة القيامة وسلّمها مهمّة مقدّسة ألا وهي التبشير بالقيامة المجيدة فكانت أوّل صحافيّة تنقل إلى التلاميذ خبر قيامة المعلّم. لكنّ يسوع لم يقدّم لها برنامجًا للخدمة ولم يحاول أن يخطّ لها شريعة محدّدة، بل قال لها: «قولي لهم، أي للرسل، إنّي صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم». هذه هي مهمّتها. فمسحت دموعها وانطلقت تبشّر كما ورد في إنجيل يوحنّا. في إنجيل لوقا طُلب من حاملات الطيب أن يُخبرن الأحد عشر تلميذًا والآخرين ما قاله الملاك: «لماذا تطلبن الحيّ مع الموتى؟». في إنجيل مرقس الملاك أمر النسوة بأن «اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنّه يسبقكم إلى الجليل». أمّا في إنجيل متّى فيقول الملاك: «أسرعا في الذهاب إلى تلاميذه وقولا لهم إنّه قد قام من بين الأموات».
المرأة تجرّأت وذهبت إلى القبر قبل الفجر في حين كان الرسل خائفين. إنّها شجاعة وأمينة ومثابرة، ولذلك كافأها الربّ وكرّمها بأن ظهر لها أوّلًا. والمرأة إذا وضعت أمام عينيها مثال مريم الكلّيّة الطهارة لا بدّ من أن تخطو خطوة على طريق القداسة. وهكذا يفوح منها عبير قداسة يجذب إلى المسيح من هم حولها، وهذه هي أهمّ طريقة للخدمة. فأساس الخدمة هو أن نعرّف البشر إلى يسوع الناصريّ ونشهد لقيامته.
المسيح حاور المرأة ولم يجعل حاجزًا بينه وبينها حتّى ولو كانت على غير مذهبه كما فعل مع المرأة السامريّة. هو طلب منها ماء وبعد أخذ وردّ قال لها: «لو كنت تعلمين عطيّة اللَّه ومن هو الذي يقول لك اسقيني لسألته أنت فأعطاك ماء حيًّا» (يوحنّا 4: 10). فما هو الماء الحيّ؟ إنّه الروح القدس كما ورد في إنجيل يوحنّا. إنّه قوّة الخالق المحيية. قال يسوع «إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب» (يوحنّا 7: 39). الشرط الذي يحدّده الرب هو «العطش»، أي العطش إلى كلامه، فإذا شعر الإنسان بالعطش يرتوي حينئذ إن خزّن هذا الماء في جوفه. كما يتغلّل المطر في عمق الأرض فتنفجر الينابيع، كذلك تتفجّر الكلمة من بطنه أنهار ماء حيّ. هناك اشتياق إلى الروح «كما تشتاق الأيّل إلى مجاري المياه»، والشوق حركة نحو الآخر، نحو الهدف. هذا الروح الذي يقول عنه أشعياء النبيّ «يحوّل الصحراء إلى بساتين مزهرة». وكما ورد في كتاب الرؤيا: «لأنّ الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيّة ويمسح اللَّه كلّ دمعة من عيونهم...» (7: 17). رمزيّة الماء تجد معناها العميق في المعموديّة المسيحيّة، كما قال بولس عن الكنيسة: «لكي يقدّسها مطهّرًا إيّاها بغسل الماء بالكلمة» (أفسس 5: 26)، فالكلمة تغذّي العقل وتطهّر الأذهان وتفتحها.
الخدمة عطاء ومحبّة
ومن غير بولس الرسول تكلّم على المحبّة بتلك البلاغة (1كورنثوس: 13): «إن كان لي كلّ الإيمان حتّى أنقل الجبال ولكن ليس لي محبّة فلست شيئًا». ثمّ يضيف: «المحبّة تتأنّى وترفق، المحبّة لا تحسد، المحبّة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تطلب ما لنفسها ولا تظنّ بالسوء وتحتمل كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء...». أمّا المسيح فيزيد على هذا النشيد طلبًا من الصعب تطبيقه قائلًا: «وأمّا أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متّى 5: 44).
المسيحيّة ليست دينًا سهلًا، إنّها تسلّق الجبال الشامخة وتتطلّب قوّة إرادة ومحبّة قصوى. لكي يصل المرء إلى القداسة عليه أن يحاول السير على درب الكمال حاملًا الصليب. ألم يعلّم القدّيس أثناسيوس قائلًا: «صار اللَّه إنسانًا لكي يستطيع الإنسان أن يتألّه». أي أن يصل إلى استرجاع صورة اللَّه التي خُلق على مثالها.
المرأة عند بولس الرسول
نلاحظ أنّ بولس الرسول لم يعطِ المرأة دورًا مهمًّا في العمل داخل الكنيسة. رغم كلّ الأقوال الجميلة التي سمعناها فهو يظلم المرأة نوعًا ما. إذ حدّ من نشاطها وجعل الرجل رأسها بشرط أن يكون المسيح رأس الرجل، كما أنّ الآب هو رأس يسوع. هذا هو الهرم الذي أظهره بولس. قال إنّه ينبغي للمرأة أن تصمت في الكنيسة وأن تستر رأسها. والسبب هو أنّ بولس كان في بيئة مختلفة عندما كتب هذه السطور. كتب إلى أهل كورنثوس حيث كانت الفحشاء متفشّية، ثمّ علينا ألّا ننسى أنّ بولس الرسول كان فرّيسيًّا في الأصل وتأثّر بجذوره هذه، فوضع أسسًا للكنيسة الناشئة وقوانين من تلك البيئة. المرأة تحتجّ عندما يُقرأ نصّ من رسالة بولس الرسول في خدمة العرس. والبعض يسأل لماذا يقول الرسول «أيّها النساء اخضعن لرجالكنّ كما للربّ» (أفسس 5: 22). الجواب هو أنّ بولس الرسول وجّه هذه الرسالة إلى أهل أفسس في بلاد اليونان الذين كانوا وثنيّين، بينما يسوع كرز في أورشليم حيث الشعب كان يخضع لدين سماويّ وشريعة موسويّة. لكنّ المجتمع تطوّر والمرأة تحرّرت وما قيل في زمن بولس الرسول يُفسّر في البيئة التي عاش فيها ولا يصلح اليوم. لكنّ بولس قال شيئًا مهمًّا واعترف بأنّ المرأة تستطـيع أن تتنبّأ «أمّا كـلّ امـرأة تصـلّي أو تـتنـبّأ ورأسها غير مغطّى (1كورنثوس 11: 4) ويضيف أنّ المـرأة هـي مجد الرجل. يسوع مجّد المرأة عندما أراد أن يتجسّد في حشا مريم الكلّيّة الطهارة التي رغم صمتها وحفظها كلّ أقوال الربّ في قلبها، أنشـدت نشـيدًا رائـعًا فـيـه كـلّ قـيـم العـهـد الـقـديم من شكر وعبادة وتواضع وتنبّؤ عندما قالت «كلّ الأجيـال تطوّبني». مريم هي المثال الأعلى لكلّ امرأة.
مجال الخدمة
تستطيع المرأة أن تخدم في مجالات عدّة في الكنيسة، لاسيّما في مضمار التربية والتعليم ونشر الإنجيل وشرحه، بهدف تنشئة الجيل مسيحيًّا. قبل كلّ شيء عليها أن تحقّق أمومتها تجاه أولادها، أي أن تسهر على تربيتهم وتلقينهم القيم المسيحيّة بالكلام والقدوة الحسنة. المثال الوحيد لتحقيق هدفها هو السيّد المسيح لكونه هو الطريق والحقّ والحياة. ماذا علّمنا المسيح؟ علّمنا أنّه الخادم بامتياز «لأنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس 10: 45). وقال أيضًا: «الكبير فيكم ليكن كالأصغر والمتقدّم كالخادم... ولكنّي أنا بينكم كالذي يخدم» (لوقا22: 26- 27). ذروة الانسحاق والتواضع تمثّلت في غسل أرجل التلاميذ قبل الآلام: «فإن كنت أنا السيّد والمعلّم غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض» (يوحنّا 13: 14).
المسيح لم يعطِ شريعة معقّدة على مثال «تثنية الشريعة» ولم يأت بوصايا كالوصايا العشر. وصاياه أعطاها في عظته على الجبل وفي إنجيل الدينونة، وقاعدته الذهبيّة هي: «كلّ ما أردتم أن يفعل الناس بكم افعلوه أنتم أيضًا بهم» (متّى 7: 12). إن أنت أطعمت الجائع وكسوت العريان وزرت المريض وساعدت المسكين تكون قد خدمت أخاك الإنسان وعبره تكون قد خدمت المسيح نفسه.
في الختام على المرأة أن تشغل نفسها بقراءة الكتاب المقدّس ومطالعة الكتب الروحيّة إن أرادت أن تعمل في حقل الربّ وأن تفعّل الوزنات التي أعطاها إيّاها الربّ، لتسمع جواب يسوع القائل «نعمًّا أيّتها الأمة الصالحة والأمينة كنت أمينة في القليل فسأقيمك على الكثير أدخلي إلى فرح ربّك». أعطنا يا ربّ القوّة والمثابرة لكي نستطيع أن ننمّي الوزنات المعطاة لنا وبواسطتها نخدم بمحبّة وتفانٍ بلا منّة، لكي نردّد مع رسول الأمم: «فإنّكم تعرفون نعمة ربّنا يسوع المسيح أنّه من أجلكم افتقر وهو غنيّ لكي تصبحوا أنتم أغنياء بفقره» (2كورنثوس 8: 9).
على المرأة أن تتعلّم من يسوع مجّانيّة العطاء، فتستثمر مواهبها وتنمّيها في سبيل خدمة الآخر، على ضوء وصيّة السيّد: «مجّانًا أخذتم، مجّانًا أُعطوا» (متّى 10: 8). ولتعلم أنّها مهما فعلت فهي ليست سوى أمة للربّ.