العدد الأوّل - سنة 2023

11 - الإيمان على دروب العصر: عناصر من الحياة في الروح / د. جورج معلولي - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

تشير كلمة «الروح» إلى الروح القدس. لذلك تشير الحياة في الروح إلى  مستوى الولادة من فوق، إلى سرّ الاتّحاد أو خدر العريس كما في أمثال الملكوت. هذا كشف لتوق الإنسان العميق إلى الينابيع السماويّة.

ليس فقط في التاريخ يولد المسيح ويصلب ويقوم بل أيضًا في أعماق كلّ نفس. هذا ما يؤيّده سرّ المعموديّة ويؤسّس له. في هذا العمق الداخليّ (داخل الإنسان وداخل الكنيسة) يُصهر هذا الرباط بين اللَّه والإنسان ويُخطّ طريق الحياة الروحيّة. لذلك فهذا الطريق هو دائمًا لقاء أو مجموعة لقاءات. اللَّه يأتي من نفسه إلى الإنسان، والإنسان يترك عزلته ليلاقي هذا الآخر المطلق الآتي اليه. «إنّك لم تحتقر أحدًا مطلقًا»، يناجي القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد اللَّه، «بل نحن من نختبئ غير مريدين أن نذهب إليك».

لذلك تتجاوز عناصر الحياة الروحيّة الإنسان نفسه. يدلّنا التقليد النسكيّ على ثلاثة تأثيرات أو ثلاث مشيئات تواجه الواحدة الأخرى في الإنسان: مشيئة اللَّه الخلاصيّة التي تعمل داخل الإنسان لتدعوه وتناديه ليتسنّى للإنسان الالتصاق بها وجعلها خاصّته، مشيئة الإنسان المتأرجحة وغير المستقرّة والمهدّدة بالانغلاق على نفسها، وتأثير الشرّير المعادي للإنسان والذي يدفعه إلى الخضوع والعبوديّة والهلاك في خروج لا لقاء فيه يتنكّر فيه الإنسان لطبيعته.

ماذا يمكن أن يقال عن العنصر الإلهيّ في هذه المسيرة الروحيّة؟ ربّما يصحّ هنا صمت الخاشعين. فاللَّه هو مبدئ هذا الطريق وهو المستتر في حضوره نفسه. «إنّ لحمًا ودمًا لم يعلن لك بل أبي الذي في السماوات» (متّى 16: 17) وهذا ليس منّا بل عطيّة من اللَّه (أفسس 2 : 8). هذه عطيّة مجّانيّة. بالحبّ وحده يجعل اللَّه الإنسان مسكنًا ثالوثيًّا: «إليه نأتي وعنده نصنع منزلًا» (يوحنّا 14 : 23). لا قياس ممكن بين عظم هذا الفعل والمجهود البشريّ، ولكن يسكن الثالوث في النفس على حسب استطاعتها استقباله. فاللَّه يعطي نفسه للإنسان على حسب عطشه: للبعض غير القادرين على أن يشربوا أكثر يعطيهم بعض القطرات، غير أنّه يريد أن يعطي نفسه ينابيع متفجّرة ليتمكّن المؤمنون من أن يرووا عطش العالم. من الواضح أنّه على مستوى المبادرة الإلهيّة لا يمكننا التكلّم على منهجيّات أو تقنيّة في الحياة الروحيّة. اللَّه يعطي والإنسان ليس إلّا إناء رغم توغّله، هو والملائكة، في الدهش والذهول.

العنصر الشيطانيّ هو حاجز أو مقسّم. هو القتّال من البدء إذ لم يثبت في الحقّ (يوحنّا 8: 44). لا ينفكّ هذا العدوّ عن الهياج في معركة لا تتوقّف: «اصحوا واسهروا لأنّ إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه» (1بطرس 5: 8). لذلك يقول الرسول: «إلبسوا سلاح اللَّه الكامل لكي تقدروا على أن تثبتوا ضدّ مكايد إبليس» (أفسس 6: 11). في هذا المستوى يؤدّي الإنسان دورًا فاعلًا. هذا هو النسك في استراتيجيّة حرب دقيقة وغير منظورة يصفها تقليدنا النسكيّ في تعاريجها.

لكنّ العنصر البشريّ في عمقه يكمن في هذا الانطلاق المستمرّ فوق هذه المعارك. هذا موقف ليتورجيّ أو تسبيحيّ: «أغنّي للربّ في حياتي. أرنم لإلهيّ ما دمت موجودًا» (مزمور 104: 33).

«هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي» (رؤيا 3: 21). تتلاقى المبادرة الإلهيّة مع توق الإنسان الذي وضع نفسه في حالة ترقّب لهذا الحدث المنتظر. يتداخل الفعل البشريّ والفعل الإلهيّ كما نتلمّسهما في مثل الابن الشاطر (وتعليقات الآباء على هذا النصّ)، حيث ينادي الأب ابنه خفية في قول الابن لنفسه: «أقوم وأذهب إلى أبي ...» (لوقا 15: 18). هذا التحرّك الإلهيّ-الإنسانيّ حيث يدعو روح الأب ابنه في خفر الاستتار وتتجاوب إرادة الابن مع دعوة الأب يكشف تآزر الإرادتين وأنّ الفعل البشريّ المحضون من الفعل الإلهيّ هو هذه البوصلة الداخليّة التي تشير دائمًا إلى منزل الآب.

هذا ما يجعل الإنسان المدعوّ مختارًا وهذا هو بالضبط مجهود النسك الخلّاق. إن لم يسبق هذا الانشداد الجهاد النسكيّ والصراع يغدو هذا الصراع من دون أفق وجدوى، كما تشرح عظات مكاريوس الكبير. وكما نقرأ عند آباء الصحراء، فالشيطان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، لذلك كما نقرأ عند الأنبا موسى وعند كاسيانوس ينبغي أن نربط دومًا كلّ جهاد نسكيّ (إن كان صومًا أو سهرًا أو حجًّا إلى الصحراء الخارجيّة أو الداخليّة) بنقاوة القلب التي هي المحبّة. هذا هو اللهب الذي يفتح للعذارى العاقلات خدر العريس. هل الحياة الروحيّة غير هذا اللقاء؟

 

اذهب إلى العمق :

 

The Struggle with God.

 Paul Evdokimov.

(Les âges de la vie spirituelle)

               

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search