العدد الأوّل - سنة 2023

10 - دراسة كتابيّة: العلاقة بين العهدين القديم والجديد / الشمّاس لوقا (عبده) - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

 

مقدّمة:

كثيرون يتساءلون عن جدوى العهد القديم وقيمته في هذا الزمان؛ فيعتبرونه غريبًا عنّا كمسيحيّين، وأنّه كتاب اليهود، وأنّه لا يتجاوب مع عصرنا ولا يتماشى مع الفكر الإنسانيّ المعاصر، حتّى يصل بهم الأمر في النهاية إلى حدّ المطالبة بإلغائه. هناك بالطبع صعوبات واضحة تكمن في تفسير العهد القديم وهذا ناتجٌ، على حدّ تعبير الأب منيف (حمصي)، من أنّ الناس بالإجمال لا يألفون العهد القديم، ومن هنا استعجالهم بالحكم عليه. كما أنّ البعض يقول بأنّ إيمان العهد القديم ليس كإيمان العهد الجديد وعمليًّا عندما يقرأه المسيحيّ يجد أنّه صعب على الفهم لأنّه ينتمي إلى عالمٍ مختلفٍ عن خبرة إيمانهم. تتبدّد كلّ هذه الغرابة عندما نضع إيمان العهد القديم في إطاره التاريخيّ والاجتماعيّ الصحيح. سأحاول في هذا البحث الإضاءة على العلاقة الوطيدة بين العهدين القديم والجديد، ومناقشة أهمّ  النظريّات التي حاولت فهم هذه العلاقة.

نشأة المعضلة:

يعتبر العهد القديم مهمًّا جدًّا بالنسبة إلى المسيحيّين: يُستشهد به تقريبًا في كلّ صفحة من العهد الجديد. ولكنّه في الوقت عينه شكَّل لديهم معضلة حتّى في المرحلة الأولى من نشأة الكنيسة. إذ شكل معناه وقيمته جدلًا  وخلافًا في حياة الكنيسة، بخاصّة في السنين التي عَقبت موت المسيح وقيامته. يسوع نفسه بشّر بأنّ حياته هي تحقيق وإكمال للعهد القديم(١). ولكنّ العديد من المواضيع التي طرحها أظهرت نظرته المختلفة وبخاصّة في مواضيع مثل حفظ السبت وقوانين الطعام(٢)، ما شكّل سوء فهم لدى العديد من المسيحيّين.

ابتدأت البشارة في أورشليم والمسيحيّون الأوائل كانوا من اليهود، بالنسبة إليهم لم تكن هناك من مشكلة. ولكن عندما أصبح من الواضح أنّ البشارة ليست فقط لليهود وإنّما للرومانيّين واليونانيّين على حدّ سواء، ظهرت مشكلة مكانة العهد القديم وسلطته بشكل أقوى. هل على الوثنيّ أن يصبح يهوديًّا أوّلاً ثمّ مسيحيًّا؟ كان جواب الرسل بالطبع لا. ولكنّهم أبقوا على العهد القديم واستعملوه كأساس لعرض الإيمان المسيحيّ. وهنا تكمن المعضلة. هل يمكن وضع أجزاء من العهد القديم جانبًا ونفي علاقتها بالإيمان المسيحيّ؟

المشكلة عبر الزمن

والحلول المطروحة:

السؤال عن علاقة العهد القديم بالعهد الجديد، ظهر بشكل واضح في القرن الثاني مع ماركيون (140م). المسيح تكلّم على اللَّه المحبّة، لكنّ ماركيون وجَد، بعد قراءته العهد القديم، صورة مختلفة للَّه التي تُظهر وحشيّته وقسوته.  الكثير من قـرَّاء العصر مثل Schleiermacher, Harnack, Keirkegraad, and Friedrich Delitzsch يجدون الشعور ذاته، ولديهم صعوبة في التوفيق بين العهدين. في النهاية تبدو نظرة ماركيون متطرّفة: فالقسوة والأحكام القاسية لا تخلو من تعاليم الربّ يسوع، كما أنّ محبّة اللَّه لا تنعدم في العهد القديم. حلُّ هذه المشكلة بالنسبة إلى ماركيون كان بحذف العهد القديم ورميه جانبًا. لكنّ هذه النظرة لم تلق إقبالًا لدى الكنيسة الأولى، لأنّ ماركيون لم يكتف فقط بحذف العهد القديم وإنّما حذف أقسامًا من العهد الجديد أيضًا، ما أثار التباسًا حول حقيقة إيمانه المسيحيّ.

الدارسون اليهود واجهوا هذا السؤال من وجهة نظر مختلفة. المفسّر اليهوديّ الكبير فيلون (20ق م-45م)، الذي عاش في مدينة الإسكندريّة، أخذ على عاتقه مهمّة التوفيق بين العهد القديم وأفكار عظماء الفلاسفة اليونان. هذا وقد استطاع، باعتماده على التفسير الرمزيّ الباطنيّ للعهد القديم، أن يظهر بعض صلات الوصل الواضحة. بعض قادة الكنيسة، بخاصّة في الإسكندريّة، اعتمدوا الأسلوب ذاته ليُظهروا أنّ العهد القديم يحوي كلّ ما في العهد الجديد. حتّى ظاهريًّا التفاصيل غير المهمّة في قصص العهد القديم، فُهمت على أنّها رموز للبشارة المسيحيّة. فكلّ شيء أحمر رمز لموت المسيح على الصليب(٣). الماء أصبح إشارة إلى المعموديّة. العلّامة أوريجانّس في كتابه «في المبادئ» يرى أنّ «علة مساوئ إدراكات أولئك... ما هي سوى أنّهم لم يفقهوا الكتاب وفق معناه الروحيّ، بل حسب ما يمليه الحرف».

هلاريون أسقف بواتييه، في فرنسا، يشرح الطريقة التي يُقرأ فيها العهد القديم بالكلمات التالية: «كلّ عمل موجود في الكتابات المقدّسة يُعلِن بالكلمة ويَشرَح بالأعمال ويُعزِز بالأمثال مجيء الربّ يسوع المسيح... منذ بدء العالم، المسيح وعبر بطاركة العهد القديم، أعطى الميلاد للكنيسة وغسلها وقدّسها واختارها... الغاية من هذا العمل تكمن في أنّه في كلّ شخص من كلّ عصر وفي كلّ حدث، تظهر صورة مجيئه، صورة تعليمه، صورة قيامته وصورة كنيستنا معكوسة كما في مرآة».

خلال الإصلاح البروتستانتيّ عاد هذا الموضوع إلى طاولة البحث. مارتن لوثر (1483- 1546م) أراد التفريق والتمييز بين قيمة العهد القديم والجديد، عبر رؤيته للعهد القديم على أنّه «الناموس» والعهد الجديد على أنّه «الإنجيل». ما جعله يفصل بين العهدين كما يفصل الإنسان القمح (العهد الجديد) عن الزؤان (العهد القديم).

في السنوات المئة الماضية عادت المشكلة وبقوّة، بعد أن خمدت نارها عقب الإصلاح البروتستانتيّ، خصوصًا مع الحركة النازيّة. فالشعور المعادي لليهود، أثّر عبر تداعياته في الكنيسة الألمانيّة، وأصبح وجود العهد القديم في الكتاب المقدّس مسألة حرجة. أدّى ذلك إلى ظهور لاهوتيّين ألمان يتبنّون نظرة ماركيون إلى العهد القديم (Neo-marconism)، ورغم الضغط السياسيّ، بقي بعض الدراسين(٤) يحافظون على قيمة العهد القديم في الكتاب.    

دايفد بيكر حاول تصنيف الحلول لمشكلة العلاقة بين العهدين، ووجد ثلاثة حلول:

اليوم، وبعد اطّلاعنا على الجدول أعلاه، نستطيع القول إنّ البعض يؤيّد فكرة إبعاد العهد القديم، لاعتقاده بأنّ العهد الجديد حلّ مكانه. هنا وبالعودة إلى قول المسيح نفسه بأنّه هو كمال العهد القديم وتحقيقه، تظهر استحالة أن يكون هذا الطرح ممكنًا. بالإضافة إلى ذلك فإنّ المسيح والرسل أنفسهم استعملوا العهد القديم، تاليًا لا يمكن للعهد القديم إلّا أن يحمل رسالة إلى المسيحيّين. ما يورده الرسول بولس في رسالته إلى أهل كورنثوس (1كورنثوس ١٠: ١١- ١٢) يساعدنا على فهم أهمّيّة العهد القديم كجزء من الكتاب المقدّس، لا يمكن محوه أو حتّى التقليل من أهمّيّته. أيضًا هناك بعض الدارسين(٥) الذين يميلون إلى التمييز بين مختلف أجزاء العهد القديم. فيحاولون فصل أمورٍ معيّنة، كقوانين الكهنة والذبائح عن أجزاء أخرى، والتعليم الأخلاقيّ الذي للأنبياء. محاولة التجزئة هذه، وصولًا إلى حذف عناصر معيّنة من العهد القديم، إنّما هي ليست سوى تشويه لإيمان العهد القديم. آخرون يرون أنّ العهد القديم له القيمة والسلطة التي للعهد الجديد، حيث إنّ الاثنين هما كلام اللَّه نفسه. البعض لديه الميل إلى تفسير العهدين باستقلال عن الآخر. ربّما يصحّ هذا على العهد القديم أكثر منه على العهد الجديد، حيث لا يمكن تجاهل القناعة المشتركة لدى كلّ كتَّاب العهد الجديد والتي جذورها ضاربة في العهد القديم. بالنسبة إلى البعض لا توجد هناك مشكلة عندما يُنظر إلى معنى العهد القديم عبر المسيح. وقد عبّروا واكتفوا بهذه الثنائيّة: «العهد الجديد مخفي في القديم، والعهد القديم كُشف بالجديد». قد يكون هذا غير كافٍ بالنسبة إلى الدارسين اليوم ولكنّ هذا يؤكّد أنّ المسيحيّين عرفوا عهدين مختلفين، وهما بحاجة إلى أن يُفسَّرا عبر علاقة تربطهما.    

الأسباب التي تقف وراء تنوّع الافتراضات هذا واضحة، وهي قائمة على عناصر استمراريّة وعدم استمراريّة بين العهدين. العهد الجديد هو امتداد العهد القديم ومفسّره، وهذا عنصر استمراريّ، بالمقابل فإنّ مجيء المسيح الذي أتى بنظرة مختلفة، يعتبر دليل عدم استمراريّة بين العهدين. 

عناصر وحدة العهدين: إله العهد القديم هو نفسه إله العهد الجديد. رغم أنّ ماركيون وبعض الدارسين في القرن العشرين يخالفون هذه النظرة إلاّ أنّه يظهر وبشكل واضح أنّ اللَّه أبا ربّنا يسوع المسيح، هو نفسه الإله الذي خلق الرجل والمرأة، وهو من أخرج الشعب الإسرائيليّ من مصر... هذا، فإنّ العهدين يشكّلان كلمة اللَّه المكشوفة للبشر، التي هي المسيح، الذي هو الحق ويتّضح ذلك عبر رسالة الرسول بولس إلى العبرانيّين «اللَّه بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواعٍ وطرائق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكلّ شيء الذي به أيضًا عمل العالم» (عبرانيّين 1:1- 2). كلّ كتب العهد الجديد باستثناء 2 و3 يوحنّا تحوي مراجع وإشارات إلى العهد القديم ما يعبّر مسبقًا عن تكامل بين العهدين. العهد القديم والعهد الجديد غير منفصلين لكونهما تعليم المسيح نفسه. كلّ منهما يعتمد على الآخر وينيره، وكلّ منهما يساعدنا على فهم الآخر. أخيرًا يرى بعض الدارسين أنّ وحدة العهدين تتجلّى في البعد الإسخاتولوجيّ، حيث العهد الجديد يكمّل العهد القديم ويسيران معًا باتّجاه اليوم الأخير أي يوم الخلاص حيث يتحقّق الوعد الإلهيّ بملئه.

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search