مجلة النور العدد الأول – 2023
لقوانين الكنيسة منطق خاصّ ينسجم مع طبيعتها، ويتّفق مع المفهوم الأرثوذكسيّ للحقّ القانونيّ. مرجعنا في التشريع الكنسيّ الكتاب المقدّس ومنطقُه، وكرازةُ الرسل القدّيسين والكيفيّةُ الرسوليّةُ، أي كيف واجه الرسل ما صادفهم من قضايا لم ترد في حياة الجماعة المسيحيّة الأولى، وتاليًا لم يفصل فيها السيّد المسيح. وعلى خطى الرسل تصرّفت جماعة المؤمنين إزاء حوادث جديدة لم تعرفها من قبل. وتظهر آثار تلك المراجع الثلاثة، المذكورة آنفًا، في قوانين الرسل وقوانين الآباء القدّيسين والمجامع المسكونيّة والمكانيّة. اشترعها آباؤنا القدّيسون بالقياس على الحلول التي أتى بها الرسل والأحكام التي سنّوها، وبالانسجام التامّ مع مشيئة الربّ الواضحة في الكتاب المقدّس. وكان سبيلهم إلى ذلك استلهام الروح القدس في الصلوات والأصوام، لأنّ هَمّ المشترع في الكنيسة أن يبقى أمينًا على ما حكم به الرسل والآباء الذين أتوا قبله. والروح القدس الذي يستلهمه «حيّ وحياة ومحيٍ»، إنّه فاعل وموحٍ، هكذا «كان وكائن وسيكون».
نحن في الكنيسة لا نقبل شيئًا ما لم يكن مبنيًّا على التقليد الحيّ، ومنسجمًا معه، وهو بشكل من الأشكال استمرار لما تسلّمناه، لأنّ الروح القدس لم يزل يفعل في كنيسة المسيح والكون. الروح هو هو نفسه أمس واليوم وإلى الأبد. فالقانون الذي يخالف منظور الكلمة الإلهيّة لا علاقة له بكنيسة الربّ. والقانون الذي لا ينسجم مع الكيفيّة الرسوليّة أيضًا لا محلّ له في الكنيسة. الحقّ الكنسيّ يختلف عن الحقّ المدنيّ. يستفيد الأوّل من الثاني، يقلّده ويستخدم القياس وأصول الاجتهاد من دون أن يخسر أصالته بشكل من الأشكال. والمهمّ أن نبقى واعين على الدوام أنّ القوانين لحماية الكنيسة وآرائها، لحمايتها من الشطط والأحديّة والزغل والهرطقات والتسلّط، وأنّ مَن يظنّ أنّ الكنيسة للقوانين مخطىء. من هذه المنطلقات لا بدّ من تأكيد ضرورة رفضِ كلّ قانون يشوّه الكنيسة ويحجب طبيعتها بابتعاده عن الكرازة والكيفيّة الرسوليّتين.
القوانين الراهنة، والتي ندعو بإلحاح إلى تنفيذها، محاولة جدّيّة لتحقيق الصورة الإنجيليّة للجماعة الشكريّة التي هي وحدها تؤلّف الكنيسة المحلّيّة – الجامعة إذ ترسم الشروط المطلوبة مبدئيًّا في الأسقف وكاهن الرعيّة والشمّاس والمجالس واللجان وأعضائها، وتشدّد على تفاعل المؤمنين ومشاركتهم في حياة الكنيسة وإدارتها. فالقوانين في الكنيسة تتحدّانا جميعًا لأنّها دعوة كي نعمل بجدّ ومثابرة على رجاء أن تتحوّل الجماعةُ كلُّها إلى قوم يتخلّقون بأخلاق اللَّه، وهي أيضًا تعبّر عن الشركة في الجماعة المؤمنة وتمتّنها، كما بواسطتها يسود الترتيب حياةَ المؤمنين وتحكم فيها اللياقة حسبما يطلب الرسول بولس بقوله: «وليكن كلّ شيء بلياقة وبحسب ترتيب» (1كورنثوس14: 40). إلّا أنّ ثمّة تشويهًا ألحقه المطارنة بقوانين السنة 1972 إذ أقرّوا تعديلات سنة 1993 أذكت التسلّط وقوّت الأحديّة. ولا بدّ من دراسة تسلّط الأضواء على ذلك وتقيم موازنة بين دور العلمانيّين في قوانين 1972 وتلك المعدّلة سنة 1993.
القوانين والأفق التعليميّ
لـمّا نتحدّث في القوانين الكنسيّة كثيرًا ما ننسى أنّ لها أفقًا تعليميًّا، ولا نرى فيها إلّا موادّ تنظيميّة وإداريّة فقط. أليست هذه القوانين نابعةً من طبيعة الكنيسة؟ ألا تعكس التعليم القويم؟ أليست أرثوذكسيّتها في أمانتها لما تسلّمناه؟
إنّ القوانين تسهم في بناء الجماعة الإنجيليّة وتعليمها. وكلّما كانت الكنيسة حيّة بالربّ، لها فكر المسيح، يسهل تطبيق القوانين فيها تطبيقًا أصيلًا. من هنا أستغرب كيف أنّ بعض السادة المطارنة يُعرضون عن تطبيق قوانين المجالس في أبرشيّاتهم وحجتُهم أنّهم لا يرغبون في أن يتحكّم في أمور الكنيسة العلمانيّون، ويفرضوا على المطران قرارات أملتها مصالحهم وأهواؤهم، علمًا أنّ المطران إنسان وله أهواؤه أيضًا. أعجب من مثل هؤلاء المتخوّفين لأنّهم ينسون أنّ القرارات لا تُنفّذ إلّا إذا مهرها المطران بختمه، وفي حال وجوب عدم تنفيذ القرارات لسلامة الإيمان ونقائه يجب على السيّد المطران أن يشرح لأبنائه السبب الموجِب، وهنا يُفسَح المجال للتعليم والتربية على استقامة الرأي. وأعتقد جازمًا أنّ إنسانًا لا يبقى متمسّكًا برأي يتعلّق بشؤون الكنيسة المقدّسة إذا عرف أنّه مخالف للتعليم القويم.
وممّا سمعت أيضًا من أحد المتلكّئين عن تطبيق أنظمة المجالس في راهننا اعتقاده أنّه يكفيه الروح القدس وحده يملي عليه ما يجب أن يقرّر. إنّه بهذا الموقف يتجاهل أنّ الروح الكلّيّ قدسه يعمل أيضا في الجماعة ويلهمها، وتاليًا لا يجوز حصره بشخص مهما سما. والشاهد على ذلك أنّنا نعرف في تاريخ الكنيسة قرارات مجمعيّة رُفِضت لأنّ الكنيسة جمعاء لم تقبلها.
ثمّة تحدٍّ دائم بين الواقع والمرتجى وسببُ ذلك الخطيئة والجهل. فلن يأتي يوم في حياتنا على الأرض يزول فيها هذا التحدّي. يجب أن يرافق مسعى تطبيق القوانين مسعى التقدّس، أيضًا كما مسعى التعليم. وهنا أذكر كيف ميّزت القوانين الآبائيّة والمسكونيّة بين شعب اللَّه والغوغاء. فلا بدّ إذًا من أن يجاهد المؤمنون جهاد العمر كي يستطيعوا أن يطبّقوا القوانين بدون شائبة. نحن قوم مصلوبون أبدًا بين الكنيسة القائمة منذ الأزل، العروس البهيّة، والكنيسة في التاريخ التي تحمل آثار خطايانا، إكليريكيّين ومؤمنين عوامّ. فعلينا أن نجتهد لتأتي أعمالنا مستقيمة وفكرنا قويمًا لندنو في هذا الزمن الراهن، قدر المستطاع، من المرتجى الذي لا نلقاه إلّا في الانقضاء.