العدد الأوّل - سنة 2023

15 – خاطرة: كلّ ما نملكه يملكنا / وسيم ميلاد وهبه - العدد 1 سنة 2023

مجلة النور العدد الأول – 2023

 

ليس غريبًا أن يشدّد يسوع المعلّم في وصاياه التي وجّهها إلى تلاميذه والناس على ضرورة تمييز المهمّ في الحياة عن الأقلّ أهمّيّة أو عن غير المهمّ والسيّئ.

ومن هذا المنطلق يقول لهم: «لأنّه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا.» (متّى ٦ : ٢١ ).

الكنز لغةً هو الشيء الثمين والنفيس، وغالبًا ما يكون من الجواهر والأحجار الكريمة، أو مبالغ من المال المجموع أو غيرها من التحف النادرة والمفقودة. وعندما يجمع الإنسان كنزًا، يتعلّق حكمًا به، فيصير ملازمًا له مشدودًا إليه فكريًّا لأنّه يصير مصدر سروره أو حتّى أمانه وراحته. أمّا قلبه فلن يفارق أبدًا كنزه الذي سيصبح حبّه وملاذه. هذا التعلّق المادّيّ بالشيء من المؤكّد أنّه سيفقد الإنسان تركيزه على أمورٍ أخر ضروريّة في حياته. لأنّ انشغاله بكنوزه سيغنيه زيفًا عن حاجات إنسانيّة وروحيّة أساسيّة أهمّها ارتباطه بمن حوله وعلاقاته بهم إذ إنّ الحبّ المرضيّ للأشياء يعزل المرء عن محيطه بسبب خوفه من أن يخسرها أو يسلبه إيّاها أحد. أمّا الأهمّ من ذلك أنّ هذا الحبّ والاكتفاء بالكنوز على أشكالها وما تحتويه من غنى، سينسيه افتقاره الكبير والدائم إلى الغنى الحقيقيّ الذي يهبه إيّاه اللَّه وحده. ربّما عنده يحلّ غناه المادّيّ محلّ غنى الرحمة التي عبرها نتذوّق الملكوت  السماويّ على الأرض، فيكتفي بالمزيّف الآنيّ مستغنيًا عن الحقيقيّ والأبديّ.

إنّ حبّ التملّك كامن في خفايا غرائزنا، ومتى زاد هذا الحبّ عن حدّه الطبيعيّ، إن دلّ على شيء يدلّ على نقصٍ ما في الإنسان يحاول التعويض عنه بحبّه للأشياء. ومن السهل التفريق بين هواية التجميع لشيء ما، والهوس المرَضيّ في ذلك. فالهواية جميلة وتبقى خاضعة لتحكّم المرء. الخطر في الموضوع يكمن في استعباد الكنوز لصاحبها. سوف تسيطر على كيانه وتملك قلبه وهو ظانّ أنّه من يملكها، ليصحّ قول قائل «إنّ كلّ ما نملكه يملكنا بطريقة ما»، أيّ أنّ هذا التعلّق بما اكتنزناه سيعكس قاعدة الطبيعة بأن يسود الإنسان ويتسلّط على كلّ ما في الأرض، فيصير هذا الأخير عبدًا يرزح تحت سلطان الأشياء وفي هذا انحراف عظيم.

وفي الواقع، أراد يسوع أن يلفت انتباهنا إلى أنّنا نجنح كثيرًا إلى الارتكابات الخاطئة، التي قد تبدو بسيطةً في بادئ الأمر، لكنّها مع الوقت  تكبر ويكبر تأثيرها فينا. ذلك بأنّ فيها مغرياتٍ تغسل العقول وتعمي البصيرة. وقد حدّد يسوع المشكلة صراحةً: الاكتناز الذي مرادفه حبّ التملّك. لأنّ كلّ ما في الأرض وعليها فانٍ ومأكلٌ للسوس. كلّه إلى زوال. فكيف نضع أنفسنا تحت رحمة أشياء زائلة وتحت سيطرتها؟

 

أراد يسوع أن يفهمنا أنّ كلّ اكتناز وتجميع للمادّيّات، إن لم يسهم في بنائنا من الداخل، هو باطل وخطر على سلامة فكرنا وسلوكنا الروحيّ والاجتماعيّ. فإن كان لكلام يسوع صدى في نفوسنا، فلنبتعد عن كلّ ما يشغل عقولنا ويتحكّم فيها من غرائز حبّ الامتلاك، التسلّط والجشع، ولنرمِ وراءنا تخيّلات الغبطة التي توهمنا بها كنوزنا المجموعة أو التي نحلم بجمعها مع السنين، والتي تسرق قلوبنا إليها وتميتها. فالتخيّلات باهتة وواهية لا تشبِع ولا تروي. كلّ ما نحتاج إليه لنشبع ونرتوي من الفرح الحقيقيّ هو اكتناز من نوعٍ  آخر، اكتناز للمحبّة التي نقطفها من العيون والابتسامات من حولنا، والمستقاة من رحمة اللَّه التي توزّع الكنوز الأبديّة غير البالية، التي تبني النفوس بالرجاء والإيمان الذي لا يخيب.  متى جمعنا هذه الكنوز وأحببناها حتّى الملء، إليها ترتاح قلوبنا وفيها تقيم، وإذا كانت هذه هي الكنوز التي نملكها فلن تملكنا سوى محبّة اللَّه الفاعلة والمغذّية إلى الأبد.

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search