إعداد النور
مجلة النور العدد الأول – 2023
في كنيسة رقاد والدة الإله، في دير بيوخيتيتسا، أيقونة صغيرة للقدّيس جاورجيوس اللابس الظفر وهو يصارع التنّين الرهيب. قلّة من الناس تعرف أنّ هذه الأيقونة رسمها غريغوري زورافليف، الرسّام الذائع الصيت في روسيا ما قبل الثورة البولشفيّة، وهو رجل وُلد من دون يدين ورجلين.
هذا الرجل المعجزة برز إلى الضوء في العام 1963، عندما اكتشف مؤرّخ صربيّ متخصّص بتاريخ الفنّ ومرمّم أيضًا، اسمه زدرافكو كاماكوفيتش، أيقونة تمثّل القدّيسين كيرلّس ومثوديوس في قرية براسين اليوغوسلافيّة. نقرأ الكتابة الروسيّة التالية على الوجه الثاني من الأيقونة: «في مقاطعة سامارا، في قرية أوتفكا، كتب فلّاح اسمه غريغوري زورافليف هذه الأيقونة بأسنانه، لكونه ولُد من دون يدين ورجلين، في الثاني من تمّوز 1885».
وفي وقت لاحق اكتشف هذا العالِم ما يلي: «إنّه إنجاز دقيق ومدروس، وللوهلة الأولى نسبت هذا العمل إلى رسّام أكاديميّ متمرّس، والكتابة وضعها راهب من دون أن يذكر اسمه. أنا مسرور جدًّا لوجود إنسان استطاع أن يتغلّب على إعاقته ويصل إلى قمّة الفنّ الرائع».
طفل مقعد
وُلد غريغوري زورافليف في العام 1858 في عائلة فلّاحين، في قرية أوتفكا النائية، الواقعة في منطقة الفولغا. عندما أدركت والدته أنّها أنجبت طفلًا من دون يدين ورجلين، اعتبرت أنّ اللَّه يقاصصها هي وزوجها لذنب ما. ولبثت لا تتعزّى مدّة طويلة، وكان جيرانها يشعرون بالأسى إزاء هذا الطفل المسكين ويتهامسون قائلين: «لقد ظلمه الله ولن يعيش طويلًا».
بعد ثمانية أيّام على ولادة الطفل، اصطحبه أبواه إلى الكنيسة، وتقبّل سرّ المعموديّة المقدّس باسم غريغوري. وعندما تعجّب العرّاب من شكل الطفل قال الكاهن: «لا نعلم ما هي حكمة اللَّه بالنسبة إلى هذا الطفل، علينا فقط أن ننتظر فالله قادر على كلّ شيء».
أهل القرية جميعًا أحبّوا غريغوري وساعدوه كثيرًا بخاصّة بعد أن قضى والده في حرب القوقاز، فاهتمّت القرية كلّها بهذه العائلة الكبيرة. فكانوا يفلحون لهم الأرض ويزرعونها ويجمعون الغلال. حتّى إنّ الأمير توشكوف اعتنى بالطفل وكان بين حين وآخر يعطيه المال، كما سعى إلى أن يحظى غريغوري بتعليم جيّد. فتعلّم الكتابة بأسنانه وكان أهل القرية يأتون إليه ليكتب لهم الرسائل.
هبة من اللَّه
برزت قدرات غريغوري باكرًا ومنحه اللَّه موهبة منذ صغره. إذ كان يزحف في الحديقة ويلتقط بأسنانه غصينًا ويرسم الحيوانات والنباتات والأشخاص على التراب. أذهلت هذه الرسوم الناس حتّى إنّ أفكار غريغوري أدهشت كبار السنّ، فهو كان ينظر إلى خليقة اللَّه بعيني رجل ناضج، وبسبب آلامه أدرك ما كان غيره لا يلاحظه.
امتلأت روحه بنور يصل به إلى اللَّه، فكان يشعر بانجذاب دائم نحو كنيسة الربّ. وكان يطلب أن يذهب إلى الكنيسة ليلمس برأسه أيقونة والدة الإله. وكان أخوته يأخذونه على كرسيّه المتحرّك إلى كنيسة صغيرة وكانوا يرفعونه ليكرّم كل أيقونة موجودة وهو يبكي، وكانت الجموع عند رؤيته تجهش بالبكاء.
الأمير توشكوف كان دائم الاهتمام بعائلة غريغوري حتّى إنّه أرسله إلى مدرسة في سمارا. في البدء سخر منه زملاؤه ولكن مع الوقت أحبّوه لذكائه وروحه الطيّبة. وتخرّج غريغوري من المدرسة بامتياز.
تلقّن غريغوري المبادئ التقنيّة في استعمال الفرشاة في رسم الأيقونة في محترف ألكسي إيفانوفيتش سكسايف. وكانت لغريشا، كما كان الناس ينادونه، طاولة خاصّة قرب النافذة وهي مجهّزة بأحزمة جلديّة. كان يُربط على الطاولة ويحمل الفرشاة بأسنانه فينغمس في عالم آخر مختلف تمامًا.
بعد خمس سنوات من المواظبة على العمل غدا غريغوري قادرًا على رسم الأيقونات وتزيين الكنائس. وهكذا تمكّن من رسم قبّة كنيسة حجريّة بنيت على اسم الثالوث القدّوس في أوتفكا. كان العمل مضنيًا بالنسبة إلى غريغوري وفي بعض الأحيان كان ينهار من التعب، ويصاب بتشنّج في الفكّ ويصعب سحب الفرشاة من بين أسنانه، ويسيل الدم من شفتيه، ورغم ذلك كلّه كانت روحه تشعّ بنور غريب.
وفق معايير العالم كان يفترض أن يعيش غريغوري حياة بائسة. إلّا أنّه أحبّ يسوع بكلّ جوارحه، وتقبّل إرادة اللَّه بكلّ طيبة خاطر، محولًا إعاقته إلى إبداع.