العدد الرابع - سنة 2022

05 - ذكرى - غابي حبيب - الأب إيليّا (متري) - العدد 4 سنة 2022

غاب عنّا وجه نهضويّ، وجه غابي حبيب. الناس النهضويّون في كنيستنا، المقرَّبون أو الكبار منهم، قصصٌ، قصصٌ ليست للتسلية كمعظم القصص، التسلية لمجرّد التسلية، بل هي للمنفعة وللتمثّل. ما زال اللَّه يخاطبنا في القصّة. قيمة هذه المخاطبة أنّها تجعلنا أحرارًا إلّا من مواجهة الراوي. القصّة راويها. تبدو لك أحيانًا مبالغة. تبدو لك غريبةً، بعيدةً عمّا تراه في دنيا تعرفها. أو تبدو ارتقاءً إلى الأفضل. تصدّق. لا تصدّق. تدخلك القصّة، التي من فم اللَّه، في هذه الحيرة، أوّلًا لأنّ الراوي يحبّك كثيرًا، ثمّ لأنّ الأيّام، التي تعاطيتَها، سمحتَ لها بأن تتعاطاك، أخذتَ ممّا فيها من عتاقةٍ قليلاً أو كثيرًا، ثمّ أخيرًا لاكتشافك بأنّ لك، إن أردتَ، فرصةً جديدة، دعوةً إلى التجدّد. تدعونا القصّة إلى أن ننتسب إلى الإله الراوي الذي لا يطلب منّا شيئًا سوى أن نسمح له بأن يجعل كلًّا منّا قصّة.

تعنيني هذه المقدّمة. يعنيني أن نرى الكلمة جسدًا يمشي بيننا. عندما قرّرتُ أن أكتب هذه الكلمة للشهادة أو لتوثيق المحبّة، فكّرتُ أوّلًا في أن أذهب إلى إرثنا المكتوب، أن أسعى إلى أن أستخرج منه شيئًا ممّا قاله الأخ غابي حبيب. ثمّ عدلت. قلتُ في نفسي: «أحفظ ما كان عليه. إنّه كلمة من كلمات اللَّه إلينا».

لا يُذكر أخونا الحبيب من دون امتداده إلى آفاق الإنسان الآخر المختلف أو الإنسان المكسور المشلوح على هامش الحياة، إلى أيّ دين أو مذهب أو لون أو ثقافة انتمى، إلى الإنسان الآخر في أقصى اختلافه أو أقصى عرائه. قبل مدّة، تساءلتُ على صفحات أخرى: ما الذي يميّز غابي حبيب، الذي تعاطى الانفتاح، عن غيره من المنفتحين اليوم، عن بعضهم أو عن معظمهم؟ أدعوكم إلى أن تنتبهوا إلى أنّني هنا، عن قصد، لم أذكر المنغلقين، الذين يعتبرون «تصلّبهم» أمانةً و«جنون الاستعلاء» على جميع الناس الذين لا يشبهونهم إخلاصًا للَّه! أذكر حصرًا المنفتحين. ما الذي يميّزه عنهم؟ سأقول ما الذي يجمعه مع الحقيقيّين منهم. يجمعه انغراسه في عمق كنيسته. الذي جرى مع غابي حبيب يمكن اختصاره بهذه الكلمات من قصّته: دُعي إلى الالتزام في كنيسته. تبتّل لها. غرق في حبّها، في حبّ عبادتها وفكرها وأهلها، وفي خدمتها. عندما اكتشف أنّه كلَّهُ أرثوذكسيّ من أعلى رأسه إلى أخمص قدمَيه، وجد معه الناسَ جميعًا، وجد الإنسانَ الذي اتّخذه المسيح في سرّ تجسّده من مريم. الأرثوذكسيّ الصلب هو المنفتح. لا يمكن أن تجد أرثوذكسيًّا حقيقيًّا لا يحبّ الناس، أو يرضى بظلم الناس، أيًّا كانوا … هذا، إلى العمل المسكونيّ والحوار المسيحيّ الإسلاميّ، جعل فلسطين قضيّةً من قضايا غابي حبيب، بل من قضاياه الكبرى.

 لن أبتعد عمّا وصلتُ إليه، بل سأغوص في عمقه. من المعلوم أنّ لغابي أخصّاءَ وأصدقاءَ في المنطقة التي دُفِعْتُ إلى خدمتها. عندما دفعَتْهُ الحياةُ إلى أن يحيا في الخارج، بقيت له منطقتنا، لسنين، في زياراته إلى لبنان، المكان الذي يطلّ منه على بلده وأهله. شيئان لفتاني في حضوره بيننا. أوّلًا، التحاقه بخدمة العبادة في كنيستنا في معظم الآحاد الذي يكون فيه هنا. زرتُهُ في منزل شقيقته مرارًا. مشهد زياراتنا يُحكى عنه. اجتمع سريعًا إليه بعض الذين يشاركونه في رؤياه النهضويّة. هذا يسمح لي بأن أشهد له أنّه كان يُحبّ يسوع حبًّا شخصيًّا. أعطوني إنسانًا يحبّ يسوع فعلًا، وخذوا كلّ شيء. يمكن أن تكون المشاركة في الإفخارستيّا لبعض الناس عادةً أو وجهًا من وجوه الارتباط الاجتماعيّ... ولكنّ هذا، من دون أن أحلّل الفوضى أو أدينها، يحدث في قريتك أو في المكان الذي ترتبط فيه بأهله... أمّا أن تقصد شركة الكنيسة في مكان لا تعرف فيه سوى قلّة، واحدٍ أو اثنين أو عشرة، فهذا لا يفسّره سوى الحبّ. غابي حبيب لم يطلب له وجودًا في الكنيسة أو في العالم سوى المؤسَّس على حبّ اللَّه. هذا أوّلًا.

أمّا الشيء الثاني، فقدرة هذا الرجل على الهدوء. قدرته على الهدوء عجيبة فعلًا. من أين للكبار هذا الهدوء؟ عندما تحمل نفسك إلى إنسان تعرف أنّه كبير، تعرف أنّ اللقاء به عطيّة، تضع في رأسك أمرًا من اثنين. إمّا أنّك ستجدّد جعبتك، ستجدّد قلبك، أو أنّك ستفرغ ما عندك كلّه عنده، أمامه، عليه. هذا يحدث. ولكن، ليس كما كنتَ تتصوّر. دائمًا الذي يحدث يتمّ في أسلوب اللَّه. الهدوء هو دائمًا سمة اللقاء. الهدوء. الصمت. السكينة. هو الصعود إلى القمّة، إلى الجبل، حيث المتحدّثون يعطونك أن تسمع ما تستطيع أن تسمعه، حيث الكلمات التي تقولها التماسَ كلمات. هل أنت تهذي؟ هذا تعرفه بوضوح عندما تعود إلى النزول، إلى سفح الجبال، إلى الحياة التي يتجلّى اللَّه فيها في خدمة الإنسان المتعب، إلى حيث الحكي فعل وانعطاف وتحريك العالم إلى الانعطاف والفعل. على الجبل ثمّ في سفحه وفي المدى، تكشف أنّ الهدوء كان فرصةً لك من أجل أن تقوم من جديد إلى عالم الخدمة أكثر اعتقادًا بأنّ اللَّه هنا، دائمًا هنا، وأنّك كنت مغمورًا بنور هداياه.

أحبّ القصص النافعة، ولا سيّما منها تلك التي تفتح لنا في نهايتها بداءةً جديدةً، إطلالةً على واقع أحلى، تلك التي تجعل عينَيك أوسع وأذنيَك أكبر وقامتك أكثر امتشتاقًا من أجل أن تستدرك القصّة الجديدة، أو القصص الجديدة، التي أخذ اللَّه يرويها. المسيح قام!

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search