يستخدم هاتين العبارتين كثيرون بوصفهما يُشيران إلى كتب تحمل اسميهما. فعبارة «العهد الجديد» تعني بالنسبة إلى كثيرين الكتاب الذي يحوي الأسفار السبعة والعشرين الذي يتألّف منها، وكلمة إنجيل تشير إلى كلّ من الكتب الأربعة المنسوبة إلى كلٍّ من الرّسل القدّيسين مرقس ومتّى ولوقا ويوحنّا. بمعنى ما هذا صحيح، لكنّه لا يعبّر عن حقيقة مدلول العبارتين، لذا وجب التوضيح.
أوّل من استخدم عبارة «العهد الجديد» هو الربّ يسوع، عندما أشار إلى الخمر المُحوَّل من قبله إلى دمه في العشاء الأخير- أو العشاء السرّيّ لأنّه كان تأسيس سرّ الإفخارستيّا أو سرّ الشكر بوصفه القدّاس الأوّل والذي كلّ قدّاس هو إحياء له – بقوله «هذا هو دمي الذي للعهد الجديد» (متّى 28:26)، والواضح أنّ الكتاب المُشار إليه بـ«العهد الجديد» لم يكن قد كُتب بعد. إذًا ما المقصود بعبارة «العهد الجديد» ولماذا هو جديد؟
لكي يكون أمر ما جديدًا يجب أن يكون ما قبله قديمًا، أي أن نسبته كجديد هي لقديم سبقه. فإن كنت مثلًا ابتعت سيّارة لا يصحّ نعتها بسيّارتي الجديدة إن كانت أوّل سيّارة أشتريها، لكن إن سبق لي اقتناء سيّارة أو أكثر قبلها يصحّ حينئذٍ نعتها بالجديدة. العبارة إذًا تشير إلى قديم، فما هو ولماذا سُمّيت الأسفار اليهوديّة بالعهد القديم؟
قبل تجسُّد الربّ وتأنّس ابن اللَّه، كانت «استراتيجيّة» اللَّه بتعامله مع المؤمنين به هكذا: كان اللَّه يبلغ قصده للناس بواسطة نبيّ، يتواصل مباشرة معه، وهو «يُنبئ» الناس بما سمعه من اللَّه. اللَّه لم يتكلّم مع الشعب مباشرةً بل دائمًا بواسطة نبيّ، واختار ثلاثة منهم لكي يقيم «عهدًا» مع الشعب بواسطتهم، وهم إبراهيم وموسى وداود، وهي العهود التي أتت متدرّجةً لكي تصبّ وتكتمل بمجيء المخلّص إلى الأرض. العهد الأخير مع النبيّ والملك داود لم يتحقّق في أوانه، وهو الوعد الذي نجده في الفصل السابع من سفر صموئيل الثاني ويفيدنا بأنّ الربّ سيقيم من نسل داود ملكًا ويكون له أبًا، تثبت مملكته إلى الأبد، وهو ما تكرّر على لسان الملاك جبرائيل إلى العذراء في الفصل الأوّل من الإنجيل كما رواه الرسول لوقا.
بالتجسّد تغيّرت «استراتيجيّة» اللَّه، الذي «لمّا حان ملء الزمان، أرسل اللَّه ابنه مولودًا من امرأة» (غلاطية 4:4)، أي أنّ الآب قررّ أن يصير ابنه إنسانًا، بشريًّا مثل البشر الذين خلقهم، وأن يندمج فيهم ويختبر ما يختبرون، لكي يتبنّاهم مخاطبًا إيّاهم مباشرةً لا بواسطة نبيّ. لهذا، بالتجسّد، صرنا في «العهد الجديد». في أيّام موسى أمر اللَّه كلّ بيت بأن يذبح حمَلًا كفَّارة عن أفراده وأن يأكله أفراد العائلة ليتذكّروا أنّ اللَّه هو الذي أخرجهم من أرض العبوديّة في مصر إلى أرض الحرّيّة في كنعان (خروج 12) فكان الفصح، أي العبور، وكانت هي وليمة الفصح. مع الربّ المتجسّد، صار هو الحمل الكفّارة المذبوح على الصليب والقائم من بين الأموات، فحقّق لنا فصحنا (عبورنا) بأن جعلنا نعبر بالإيمان به من عبوديّة الخطيئة إلى التحرّر به، وصار الخبز المتحوّل إلى جسده مع الخمر المتحوّل إلى دمه هو وليمة الفصح، هو علامة العهد الذي صار به جديدًا والذي نأكله ليديم الربّ سُكناه فينا. هذا هو «العهد الجديد».
ولأنّ الحاجة برزت وتعاظمت لنقل البشارة (وسنأتي على مدلول الكلمة لاحقًا) وشرح الإيمان ونقل تعليم الربّ يسوع وإبراز شخصه والتركيز على ما فعله، بخاصّة في آخر أيّامه على الأرض، التي تكلّلت بقيامته وصعوده (إصعادنا معه) إلى السماوات واستمرار البشارة عبر ما فعله الرسل بعدها، بدأت بعض الكتابات بالظهور لكلّ هذه الأسباب. أوّل من كتب كان بولس الرسول الذي جال الأقطار مبشّرًا، فوَجّه رسائل إلى جماعات مسيحيّة هنا وهناك كما إلى بعض الأفراد، تبعه بعض الرسل. ولمّا جُمعت هذه الكتابات أو الأسفار، وعددها سبعة وعشرون في كتاب واحد سُمّي «العهد الجديد» لأنّ موضوعه هو «العهد الجديد»، وهي الأناجيل الأربعة وكتاب أعمال الرسل ورسائل بولس والرسائل السبع الجامعة وسفر الرؤيا المنسوب إلى الرسول يوحنّا. فالكتاب الجامع هذا ليس هو العهد الجديد بل موضوعه الأساس هو العهد الجديد. أيضًا، وبسبب هذا، صارت كلّ الكتابات أو الأسفار التي سبقت مجيء المسيح تُدعى «العهد القديم».
أمّا تسمية أحد الأسفار «إنجيلًا» فيعود إلى المنطق ذاته. فكلمة «إنجيل» مشتقّة من كلمة يونانيّة وهي «إيوانجيليون» وتعني «البشارة السارّة». ولأنّ كُلًّا من الكُتّاب الأربعة أراد نقل البشارة عبر تناول شخص المسيح الربّ المتجسّد وهويّته وتعليمه وأفعاله وصلبه وقيامته وصعوده، سُمّي كتابه «إنجيلًا» لأنّ موضوعه هو الإنجيل. فعندما نقول «إنجيل متّى» على سبيل المثال، نعني أنّ ما كتبه متى هو روايته للإنجيل، والإنجيل – أي البشارة السارّة – هو إنجيل المسيح وليس إنجيل متّى. لذلك قد يكون الأصحّ القول «الإنجيل كما رواه متّى أو بحسب الرسول متّى».
هذا يفسّر تعدّد «الأناجيل» لأنّ كلًّا من الرسل كان يتوجّه إلى جمهور مختلف فكان عليه أن يكتب لمخاطبة ذلك الجمهور بخصوصيّته، ودخل طبعًا في عمليّة الكتابة شخص الكاتب وأسلوبه وثقافته. والجدير ذكره هو أنّ كتابات أخرى ظهرت على مرّ السنين لم يتبنّاها المسيحيّون لأنّها لم تتطابق مع ما يذكرونه عن المسيح، أو ما نقله إليهم من عاصروه وشهدوا له.
توضيح هاتين العبارتين مهمّ جدًّا لنعي إيماننا، فنحن لسنا أتباع كتاب ولا نُعَرَّف به، بل نحن أتباع شخص المسيح المخلّص، الربّ المتجسّد الذي نعبده مع الآب والروح القدس، ولهذا نُسَمّى «مسيحيّين»