كان غابي أوّل مَن تعرّفت إليه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وكان من الذين عرّفوني إليها.
دخل الحركة شابًّا. لا أدري إن كان مرّ في منظّمات الطفولة في بلدته، وادي شحرور. لكن عندما عرفته في بيروت، السنة 1956، كان يُعتبر من «قدماء» الحركة. أكان ذلك لأنّه انتمى إليها باكرًا، أو لأنّه سرعان ما التزم تطلّعاتها؟ مهما كانت حقيقة «قِدمه»، كان هو الوجه الأبرز بين الشبيبة الملتزمة إطلاق النهضة الحركيّة مجدّدًا في مدارس بيروت وجامعاتها. أقول مجدّدًا لأنّ الأنطلاقة الأولى كانت في صفوف الطلّاب، في بيروت، السنة 1942. كنت آنذاك أحد هؤلاء الطلّاب الجدد، فتتلمذت مع غابي، على المعلّم والمُلهِم الكبير، الأب جورج (خضر).
علّمني غابي أنّ المسيح يُلاقى فعلًا في الإنسان، لأنّه ارتأى أن يسكن فيه ويشارك في مآسيه، لذلك كان كابي دائم الجهوزيّة لخدمة الآخرين. عرف أنّ المسيحيّ يتحقّق بالانفتاح على الآخرين وباكتشاف المسيح فيهم وعبرهم، علاوة على اكتشافه في الكتاب المقدّس وحياة الكنيسة الأسراريّة وشركة الإخوة. كان همّه العيش دومًا في حضرة اللَّه وكشفه للآخرين، ليس بالكلمات بل بفعل المحبّة. كان يعتبر المسيحيّ المنفرد، المنغلق على ذاته، ليس بمسيحيّ حقّ، لأنّ مثال المسيحيّ هو الربّ يسوع في تواصله مع السامريّة، حيث تجاهل الحواجز الاجتماعيّة والدينيّة التي كانت تحول دون اتّصاله بها. كان غابي يرى يسوع مصلوبًا في كلّ قريب أو غريب، وفي كلّ مضطهَد ومحتاج، ويعتبر من واجبه أن يغسل رجليه، كما فعل سيّده. كان حاضرًا لمشاكل معارفه، دائم الاستعداد لحلّها. كنّا نلجأ إليه من أجل تقارب المتخالفين في الآراء أو المواقف، لأنّ الربّ منحه موهبة المصالحة.
جنّد حماسه وتكريسه الكلّيّ في الخدمة، كثيرًا من الشباب والكهول في المساهمة في النشاطات التي أطلقها في الحركة بخاصّة وفي مسؤوليّاته الأخرى بعامّة.
أسهم في إطلاق العمل الطلّابيّ الحركيّ وتوحيده، وكان وراء أوّل المؤتمرات الطلّابيّة ومجلس الطلّاب العامّ، إضافة إلى إنجازات كثيرة طبعت مسيرتنا.
كما مدّ التطلّعات الحركيّة إلى خارج حدود الكنيسة الأنطاكيّة، فشجّع العلاقات مع شباب الأردن ومصر وفلسطين الأرثوذكسيّين، وجعلهم يشتركون في المؤتمرات الحركيّة لتوطيد الشركة التي تجمعنا في الإيمان القويم.
أسهم غابي في توطيد العلاقات بين حركات الشباب الأرثوذكسيّ في العالم عندما شغل منصب أمين عامّ منظّمة سيندسموس، التي عرفت في أيّامه، التي كانت أيضًا أيّام رئاسة الأخ ألبير لحّام لها، نهضة أكيدة واهتمامًا واعيًا بأوضاع الكنيسة الأرثوذكسيّة جمعاء. وقد فتح عضويّتها لمعاهد اللاهوت، لتمكّن شباب العالم الشيوعيّ الذي لم يكن لديه حركات شبابيّة من التواصل مع الشباب الأرثوذكسيّ.
لم يقتصر انفتاحه على الأرثوذكسيّين، بل أسهم في انعقاد أوّل اجتماع لاهوتيّ بين العائلتين الأرثوذكسيّتين، في البلمند، نتج منه توافق في الإيمان وتأكيد أنّ الخلافات التاريخيّة والمآسي التي تبعتها كانت مجرّد سوء فهم ونقص في المحبّة المتبادلة. وانسجامًا مع نتيجة هذا اللقاء، جعل غابي الحركة تتواصل مع الطلّاب السريان والأقباط والأرمن وخطّط لنشاطات مشتركة، وجعلهم أعضاء مراقبين في سيندسموس.
كان مقتنعًا بأنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة، بمحافظتها على الإيمان الرسوليّ، لها رسالة عالميّة. وأنّ عليها نفض الغبار الذي تراكم على مؤسّستها، ليسترجع الإيمان الرسوليّ بريقه وينير العالم. وسعى إلى إيصال هذا الإيمان، ليس فقط إلى الأخوة المسيحيّين على اختلاف مذاهبهم، بل أيضًا إلى غير المسيحيّين. لذا كان من الأوائل الذين التزموا العمل المسكونيّ، وأصبح طيلة حياته، الصوت الأرثوذكسيّ الداعي في محافله إلى المعرفة المتبادلة والمصالحة ونسيان خلافات الماضي ومآسيه، والتهيئة لمستقبل منير مبنيّ على الحقيقة الرسوليّة والمحبّة الأخويّة. فعمل أوّلًا في مجلس الشباب (Youth Department) التابع لمجلس الكنائس العالميّ. وكان أوّل مَن استلم مسؤوليّة الاتّحاد العالميّ للطلبة المسيحيّين في الشرق الأوسط، وجعل منه منصّة تلاقت فيها الشبيبة المسيحيّة الشرق أوسطيّة حول مجالات خدمتها المشتركة في مجتمعاتها، كما نشر عبره ثقافة المصالحة العزيزة على قلبه. ثمّ أسهم مساهمة أساسيّة في تأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط. وكان أمينًا عامًّا له خلال سنوات. أسهم المجلس في أيّامه، ليس فقط في تلاقٍ أفضل للكنائس، بل في اهتمامها المشترك بإغاثة مَن تضرّر من ويلات الحروب التي اجتاحت المنطقة، تجسيدًا لرسالة المسيحيّة في الخدمة والمحبّة. لم تقتصر هذه الخدمة على المسيحيّين بل على كلّ متضرّر، أيًّا كان دينه.
وكان غابي قد أسهم أيضًا في إطلاق الحوار المسيحيّ الإسلاميّ في لبنان، واشترك في مؤتمرات عدّة لهذه الغاية وأطلق مبادرات، كما كان عضوًا في هيئات كثيرة تجاهد من أجل السلام العالميّ وتلاقي الشعوب.
وتبنّى جهاده قضايا العرب المحقّة، وبخاصّة القضيّة الفلسطينيّة. فكان بين الذين خطّطوا لانعقاد «المؤتمر العالميّ للمسيحيّين من أجل فلسطين»، وأسهم مساهمة مميّزة في تنظيمه وإنجاحه. وضمّ هذا المؤتمر مئات المسيحيّين من أنحاء العالم، وجعلهم يقدّرون الظلم الذي أصاب الفلسطينيّين.
يجهل كثيرون أنّ غابي أعدّ، بعد انتهائه من مهامّه «المهنيّة»، بضعة مشاريع لتحسين التواصل بين أبناء الكنيسة الأنطاكية ولتنظيم أفضل لبشارتها وعلاقاتها مع الآخرين، وقدّمها للمعنيّين. لكنّهم لم يكترثوا لها، ففوّتوا فرصة تسخير مواهب غابي وتفانيه، ولم يمنعوه من الهجرة.
لـم يمنعه التزامه وانشغاله الدائم، كما قال أحـدهم، «بأمور اللَّه»، مـن كـونه الـزوج الصالح لكاثي والأب المحبّ لماريّا وأنّا. كان جميل المعشر، ممتع الحديث، يحبّ المرح والمزاح البريء. كما كان محورًا للقاءات الأخوة والأصدقاء! وكم سنستفقده!
ولا بدّ لي من ذكر ما قدّمه غابي من وقت وتعب ليعاون الأسقف ثمّ البطريرك أغناطيوس الرابع، والأب ثمّ المطران جورج (خضر) والأخ ألبير لحّام في مسؤوليّاتهم المتنوّعة في مجال الكنيسة الأنطاكيّة ومجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالميّ ومنظّمة سيندسموس، إذ كان غابي اليد الخفيّة وراء كثير من النشاطات المسكونيّة والعامّة التي قاموا بها.
يمكن أن تصف عبارة «خفيّة» بمعى «خفرة» أكثر من غيرها شخصيّة غابي حبيب. كان وديعًا وعميق التواضع. قام بأعمال كبيرة ونسبها إلى غيره. عاش فقيرًا وعرف الضيق. أرهقه المرض في آخر حياته، لكنّه لم يعرف التذمّر، بل رقد شاكرًا.
كان غابي حبيب من الكبار الذين لم يعرفوا أنّهم كبار.