العدد الرابع - سنة 2022

09 - دراسة كتابيّة - في إشكاليّات العلاقة بين الكتاب المقدّس والكنيسة - نقولا أبو مراد - العدد 4 سنة 2022

في حنية كنيسة القدّيسة مطرونة في سانتا ماريّا دي كابوا فيتيري، في جنوب إيطاليا، فسيفساء لعرش أمبراطوريّ باللون الأزرق الملكيّ، وعلى العرش يستريح درجُ الأسفار المقدّسة محيطةً به الوجوه الأربعة التي رآها حزقيال، وجهُ الثور ووجه النسر ووجه الأسد ووجه الإنسان، شاخصةً إلى العرش والمستقرّ عليه. لا بدّ من أنّ مبتكري هذا الرسم وصانعيه في القرن الخامس، عرفوا دور الأمبراطور وحضوره في مجمعي نيقية 325 والقسطنطينيّة 381 على الأقلّ، وربّما أيضًا أفسس 451، وكيف كان يُستعاض عن غيابه عن الجلسات بالعرش موضوعًا عليه صولجانه أو رداؤه ليكون هذا علامةً على دوام حضوره وقيام سلطانه طيلة فترة انعقاد المجمع. هل في هذا الرسم الذي لم يقتصر على كنيسة القدّيسة مطرونة بل نجده في مواقع أخرى عديدة وفي أشكال شتّى، إلى أن اختفى في مرحلة ما بعد القرن السابع وحلّ مكانه السيّد جالسًا على العرش وفي يده الكتاب، هل في هذا الرسم رفضٌ ما للممارسة المجمعيّة التي أشرنا إليها وتأكيد على أنّ السلطان ممثّلًا بالجلوس على العرش، والملكيّة ممثّلةً باللون الأزرق، لا يراهما الضمير المسيحيّ إلّا في الكلمة الإلهيّة معدّة للقراءة في اجتماع الكنيسة للعبادة، أي في تلك اللحظة التي تتجلّى فيها هذه الكنيسة جماعةً تحيط بسيّدها لتسمع منه «كلمات الحياة»؟

إنّ وجود الدرج (scroll) ، لا الكتاب (codex)، في هذه الفسيفساء وفي كثيرٍ غيرها، نستشفّ منه تأكيدًا على كتابيّة الرسم، ذلك بأنّ الدرج هو في الأساس أسفار العهد القديم في مركزّيتها في الممارسة العباديّة اليهوديّة في المجمع، ما يعني أنّ الكنيسة في القرن الخامس كانت ما تزال، في عبادتها بالأقلّ، كنيسة كتابيّة بالدرجة الأولى، أي ترى حضورها وتجلّيها على أساس الكلمة المكتوبة والمدرجة في الأسفار ببداءتها ونهايتها.

واللافت أيضًا في هذه الفسيفساء تحديدًا، وما يشبهها، حضورُ الوجوه الأربعة وهي تنظر إلى السفر، في نقل، كما أشرنا، لرؤيا حزقيال، الإصحاح الأوّل، حيث الحضور الإلهيّ يستقلّ عن جمود الهياكل ويتفلّت منه متحرّرًا، ليصير الريح أو الروح حاملًا لهذا الحضور إلى المطارح التي يشاء أن يكون فيها، إلى أن يتجلّى في كلمات يقولها الروحُ لابن الانسان سرعان ما تُكتبُ في درج وتدخل جوف ابن الإنسان مأكلًا، لكي تعود فتخرج منه نبوءات أي كلمات إلهيّة محيية بعد موت، ليكتمل معنى الوجود الإنسانيّ كما تبيّنه نهاية كتاب حزقيال في مشهد شبيه بما نجده في كنيسة القدّيسة مطرونة وفسيفسائها: الربّ جالس على العرش في كلمته، في مكان اسمه «الربّ هناك»، وقد انتفى من هذا المكان كلّ سلطان إلّا سلطانُ فمه - حتّى جثث الملوك أخرجت – وصار هذا المكان شرق كلّ شيء.

أذكر هذا كمثالٍ في معرض كلامي على إشكاليّات تكوّن النصوص المقدّسة في التقليد المسيحيّ لكي أؤكّد على جانب من اللاهوت المسيحيّ ربّما أُسدلت عليه هنا وثمّة بعض السُتُر التي حجبته، وهو حضور اللَّه في كلمته المكتوبة في وسط الجماعة، والذي، ولئن كان ما يزال بيّنًا في الأشكال والممارسات العباديّة، إلّا أنّه اختزل جزئيًّا أو كلّيًّا في الأدب اللاهوتيّ، وغالبًا في المنطلقات التي بُني عليها وما يزال.

الإشكاليّات التي أودّ أن أتحدّث عنها هنا لا تتعلّق بالضرورة بنشوء ما يسمّى قانون الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد، بل بعض الإشكاليّات المتّصلة بفهم هذا القانون ونشوئه والعلاقة بين الكنيسة ونشوء القانون، وكذلك إشكاليّة تفسير الكتاب في الكنيسة أو من قبل الكنيسة. وتتمحور هذه الإشكاليّات كلّها حول موقع الكتاب في الكنيسة وموقع الكنيسة من الكتاب، سواء تشكيلًا أو تفسيرًا، كما تتّصل أيضًا بالعلاقة بين الكتاب والتقليد. ولا يغيب عن أحدٍ أنّ هذه الإشكاليّة تلوّنت بفعل قيام الإصلاح البروتستانتيّ وردّ الكنيسة الكاثوليكيّة على هذا الإصلاح، والذي انتقل، بشكل من الأشكال، إلى اللاهوت الأرثوذكسيّ، وعبّر عن نمطه المعاصر اللاهوتيّ الروسيّ جورج فلوروفسكي في كتابه «الكتاب المقدّس والكنيسة والتقليد. وجهة نظر أرثوذكسيّة».

خلاصة وجهة النظر هذه أنّ الكتاب هو «بجملته من صناعة الجماعة في التدبير القديم والكنيسة على حدّ سواء». فهو لا يشتمل على كلّ النصوص التاريخيّة والتشريعيّة والتعبّديّة الموجودة، بل على نخبة منها. وهذه النخبة أصبحت ذات سلطان عبر استعمالها – وعلى الأخصّ في الليتورجيا – في وسط الجماعة وعبر القيمة التي أعطتها لها الكنيسة... فما حصل، وفق هذه النظرة، أنّ بعضًا من الكتابات اختير وجُمع وسُلّم بعد ذلك إلى المؤمنين ليكون نسخة عن الرسالة الإلهيّة مصادقًا عليها. الرسالة إلهيّة وآتية من اللَّه، بل إنّها كلمته، لكنّ الجماعة المؤمنة هي التي سلّمت بصحّة الكلمة التي قيلت وهي التي شهدت لحقيقتها. لذلك فإنّ الكنيسة، كما يقول فلوروفسكي، تؤكّد الصفة المقدّسة للكتاب بواسطة الإيمان. ولأنّ الكتاب ألّف ضمن الجماعة بهدف بنيانها فلا نقدر على أن نفصل الكنيسة عن الكتاب المقدّس. فالكتاب والعهد متّصلان اتّصالًا وثيقًا، والعهد يفترض وجود شعب، ولذلك ائتمن الشعب على كلمة اللَّه في التدبير القديم. أمّا في التدبير الجديد فائتمنت كنيسة الكلمة المتجسّد على رسالة الملكوت. فالكتاب هو حقًّا كلمة اللَّه، لكنّه يستند إلى شهادة الكنيسة التي وضعت قانون الكتاب وثبّتته.

طبعًا هذه النظرة الرائجة اليوم بقوّة في الأوساط الكنسيّة الأرثوذكسيّة بعامّة، والتي تعطي، في نهاية المطاف، السلطان في تكوين النصوص المقدّسة للكنيسة، تستنتد إلى لاهوت للكنيسة يعتبرها اكتمالًا للتجسّد الإلهيّ، أي بمعنى ما المسيح نفسه في ملئه الذي يجمع الكلّ، على اعتبار أنّ المسيح هو الرأس فقط أمّا الكنيسة فهي الأعضاء التي بها يكتمل الجسد.

أمّا التقليد، في رأي اللاهوتيّ الروسيّ المعاصر، فهو بالدرجة الأولى تفسير الكنيسة للكتاب، والذي يحتكم إليه باعتباره فكر الكنيسة على افتراض أنّ الكنيسة تمتلك معرفة الحقيقة وفهمها أي حقيقة الإعلان ومعناه. فللكنيسة، عبر التقليد، سلطان نشر الإنجيل وتفسيره.

ولئن كان أصحاب هذه النظرة لا يرون فيها دلالة على أنّ الكنيسة هي فوق الكتاب، إلّا أنّهم يعتبرون الكنيسة تقف بجانب الكتاب تؤيّده من غير أن تتقيّد بحرفه. وعلى هذا الأساس فالكنيسة لها سلطان تفسير الكتاب، لأنّها المستودع الحقيقيّ الأوحد للتعليم الرسوليّ. فهذا التعليم حفظ بطريقة حيّة في الكنيسة لأنّ الروح أعطي لها. والكنيسة كانت تعلّم مشافهة، فصوت الإنجيل الحيّ لم يكن مجرّد تلاوة لكلمات الكتاب، بل هو إعلان لكلمة اللَّه كما سمعت وحفظت في الكنيسة بقوّة الروح الذي يفعل فيها دائمًا ويحييها. أمّا خارج الكنيسة وخارج خدمتها الكهنوتية المتعاقبة فلم يتمّ إعلان صحيح للإنجيل ولا تبشير قويم ولا فهم حقيقيّ لكلمة اللَّه. إذًا، ووفق هذه النظرة أيضًا، أنّ التفتيش عن الحقيقة في مكان آخر خارج الكنيسة الجامعة الرسوليّة سيكون بلا فائدة.

في رأيي أنّ في هذه المنطلقات إشكاليّات كثيرة. فحتّى لو حاول أصحابها تزيين كلامهم بحديث عن الكتاب على اعتبار أنّه الوحي والكلمة الإلهيّة، إلّا أنّهم يخضعون نشوءه وتكوينه وقراءته وتفسيره للكنيسة، وهذا يتناقض بالدرجة الأولى، في قناعتي، مع نظرة الكتاب عينه إلى الجماعة أو الكنيسة وتكوينها ونشوئها. ذلك بأنّ الجماعة هي التي تتكوّن ليس فقط على أساس الكتاب الإلهيّ بل فيه أيضًا، بمعنى أنّها تقف في كامل مسراها بين دفّتيه مقروءةً منه، قبل أن تكون قارئة له، وهي تتفتّح معالمها بفعل تفسيره هو لها، قبل أن يكون لها السلطان الأوحد على تفسيره.

ومع إقراري بأنّ مواجهة كتّاب القرون الأولى ولاهوتيّيها لنزعاتٍ في المسيحيّة وجدوا فيها خروجًا على الإيمان حدتهم إلى التشديد على مرجعيّة التعليم المتوارث في الكنيسة منذ الرسل وما قبل الرسل. إلّا أنّ استعمال أدوات هذه المواجهة لتنميط أشكال العلاقة بين الكتاب والكنيسة والتقليد بحسب النظرة التي أشرت إليها سابقًا، وتجميدها، تترتّب عليه تبعات تضرّ بهذه العلاقة وكيف ينبغي لها أن تبدو، وعلى الصعيد التفسيريّ، تمنع هذه النظرة محاولات الولوج إلى معنى النصّ بحجّة أنّها قد تخالف ما تسمّيه التفسير الآبائيّ للكتاب، فتحبس المفسّر والسامع للتفسير في كلّ آن ومكان في واقع وسياق ليس واقعهما وسياقهما. هذا وتجعل من تفسير الكنيسة الأوحد موحًى من الروح تمامًا كما الكتاب، وأحيانًا أكثر من الكتاب، على اعتبار أنّ تفسير الكنيسة يبرز أحيانًا أكثر ممّا هو في الكتاب.

ويترتّب على هذه الأمور جمود كبير، وتحجّر في هذا المكان أو ذاك، ومعطوبيّة في الفكر اللاهوتيّ بعامّة، بحيث تتشوّش الحدود في ما يُصار إلى اعتباره الكنيسة وما لا يعتبر كذلك، وتندثر خصوصيّات التفاسير الآبائيّة ويُمحى غناها وتعدّديّتها لتغدو مقولة «التفسير الآبائيّ» وعبارة «الكنيسة»  كيانين لا تعرف إلّا أسماءهما ولا يمكنك أن تحدّد بدقّة إلامَ يشيران، فتارة تصبح الكنيسة «مدى مجمعيًّا» وطورًا أساقفة وكهنة، وحينًا آخر الجماعة بكلّيّتها.

في اعتقادي أنّ ثمّة فهمًا في الكتاب وفي فهم الكنيسة وممارستها العباديّة يعبّر عن العلاقة بين الكتاب والكنيسة والتقليد يمكن إبرازه، ويصلح لأن يُستعاد، وتعبّر عنه تلك الفسيفساء الزرقاء التي بدأت حديثي بالإشارة إليها، ولحسن الحظّ أنّ هذا النمط محفوظٌ في التقليد المسيحيّ من القرون الأولى وإلى اليوم، وهو في شكل الممارسات العباديّة الخاصّة بالإفخارستيّة، والتي، للأسف، تختزل أحيانًا كثيرة ممّا يسمّى التقليد المسيحيّ.

والحقيقة أنّ صورة الدرج، أو الكتاب لاحقًا، ماثلًا على العرش الأمبراطوريّ محيطةً به وجوه الروح الذي يحمل الحضور الإلهيّ إلى حيث يشاء أن يهبّ، فيها ذلك التحرّر من الخضوع لسلطان الناس ممثّلًا، في الكتاب العزيز، بصورة الخروج من عبوديّة سلاطين الزمان سواء ادّعوا تمثيل أنفسهم أو تمثيل إلههم أو آلهتهم، إلى حيث تقودك الكلمة الإلهيّة، على أن يكون وجهك إليها في كلّ حين.

فالخروج من مصر ليس في الكتاب حركةً تاريخيّة جغرافيّة في الأساس إنّما كان حركة عباديّة، غايتها تتحقّق في تجلّي الحضور الإلهيّ على طور حوريب في سيناء حيث تكشّف السلطان الإلهيّ في الكلمة الداعية إلى محبّة اللَّه والقريب. وكأنّ نصّ الرواية يسير بالقارئ من نمط استعباد المتسلّطين للضعفاء في سيادة فرعون ممثّلًا سيادة الناس، إلى نمط عبادة اللَّه في حفظك لكلمته الداعية إيّاك إلى المحبّة. وعند تعهّدك بحفظك إيّاها تتهيّأ لك مائدة مأكل ومشرب مع الحضرة الإلهيّة تغنيك عن قدور اللحم والملاذ التي كانت لك عند فرعون وأشباهه من الناس، ذلك بأنّ الكتاب يقول عن شيوخ العبرانيّين إنّهم إذ تعهّدوا بحفظ الوصية عاينوا اللَّه وأكلوا وشربوا معًا على مائدته. ذلك هو أوج الخروج.

وعليه كانت الوصيّة الإلهيّة في الخروج، وهي غايتُه، هي المنشئة لجماعة العبرانيّين أسماها إسطفانوس الشمّاس الشهيد في خطبته قبل إعدامه في أعمال الرسل «الكنيسة». وكانت لها تلك الوصايا كلمات محيية من رميمٍ، تمامًا كما انتشلت الأرض الخربة الخالية من اندثارها الأصليّ إلى حياة متوثبّة لأنّ اللَّه قال لما ينبغي أن يكون، «كن فكان».

غير أنّك إذا ما تابعت التالي من الروايات ترى أنّ هذه الجماعة التي أنشئت إذ تعهّدت بحفظ الوصيّة أخفقت في الحقيقة في الإيفاء بعهدها، وسرعان ما استبدلت الكلام الحيّ بالعجل المصنوع من زينة ذهبيّة مطروحةٍ، ليغدو صنم الفكر البشريّ إلهًا زائفًا قائمًا على كذب يعرف قائله فراغه وخلوّه من الحقّ، ليعود بذلك الخارجون من ظلاميّة الطغيان البشريّ إلى ذلك الطغيان عينه خانعين لا لسيادة آخر بل لسيادة فراغهم وكذبهم. هذه هي الجماعة في حركتها التاريخيّة. ولا أظنّ أنّ الكنيسة تختلف عنها كتابيًّا ولو قدّر لها أن تُدعى جسدًا للمسيح إذ دُعيت لحفظ الحقّ، ولكنّها إن غابت عن الحقّ غابت عنها الدعوة لتعود إلى دنسها وغضنها.

ولذلك صار الخروج رواية مستعادة ودعوة دائمة تتلقّاها الكنيسة في كلّ مرّة تلتئم فيها، والحقيقة أنّ مضيّ الجماعة إلى مكان عبادتها يشبه الخروج في رمزيّته ومداليله، فالشعب يسير وراء الأسقف حاملًا الكتاب الإلهيّ خارجًا من عالم تطغى فيه سلاطين الناس، وتسود فيه أيضًا كبرياؤنا، لنلتئم حول الجالس على العرش والمتحدّث نرنّم له قدّوس قدّوس قدّوس، ونقبل من يده الجمرة التي تطهّر شفاهنا لنسمع نحن كلماته ونسمعها لآخرين لكي يسمع من يسمع ويبصر من يبصر حتّى تتحقّق فينا سيادته، أي خضوعنا لمن شُتم وضرب وانسحق وأذلّ ومحق على أيدينا وأيدي الناس الظالمة في هذا التاريخ وفي كلّ تاريخ.

هكذا تعيش الكنيسة الحقّ تفسير الكتاب وقراءة الكتاب.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search