العدد الرابع - سنة 2022

10 - تحقيق - دير أوبتينا صرح روحيّ خالد - إسكندر كفوري - العدد 4 سنة 2022

يعتبر دير أوبتينا بوستين (أوبتينا البيداء) الواقع في منطقة كالوغا بالقرب من مدينة كوزيلسك، بحقّ رمزًا للإحياء الروحيّ في روسيا. كانت البيداء الواقعة بالقرب من غابة الصنوبر، معزولة عن العالم على ضفّة نهر زيزدرا مكانًا ممتازًا للتقشّف ولحياة النسك. كانت واحة روحيّة تكرّرت فيها نعمة القرون الأولى للرهبنة، ما أهّل نسّاك أوبتينا للتميّز بأرقى الصفات: موهبة الفطنة، نعمة الإدراك والتبصّر، القدرة على المساعدة والتعزية.

يُخبر العديد من الحجّاج الذين زاروا أوبتينا بوستين مرّة واحدة على الأقلّ، أنّهم وصلوا إلى الدير بمشاكلهم التي لا نهاية لها، وبمجرّد أن تجاوزوا عتبة الدير، شعروا بموجة من السلام تحوط بهم وهالة النعمة المنبعثة من رهبة المكان وظلّ الآباء القدّيسين. والجدير بالذكر أنّ موقع الدير مبهر بجماله، تحوط به غابة صنوبر جميلة من جانب ونهر زيزدرا من الجانب الآخر، ويجد ضيوفه أنفسهم في واحة خصبة حيث يمكنهم الاسترخاء في الجسد والروح، وتقوية عزيمتهم.

بناء الدير حصل في القرن الرابع عشر، وهناك العديد من الروايات حول مؤسّسيه. وفق إحداها، تمّ تشكيل الدير بفضل أوبتا، الذي تاب عن خطيئة السرقة والقتل وأصبح راهبًا واتّخذ اسم مكاريوس. في شيخوخته، ترك إغراءات الحياة الدنيويّة وكرس نفسه للتوبة والصلاة إلى اللَّه استغفارًا. وفق الرواية الثانية، أسّس الدير الأمير المتديّن فلاديمير، الذي كان يميل إلى أسلوب الحياة الرهبانيّة. لكنّ الرواية الثالثة تبدو أكثر صحّة، فمن المعروف أنّ الدير الذي شكّله الرهبان والراهبات، أطلق عليه منذ فترة طويلة في روسيا اسم optina وكثر عدد النسّاك الذين سعوا إلى العزلة الروحيّة والابتعاد عن الشؤون الدنيويّة، سكنوا هذه الأرض القاحلة البعيدة. هنا أنشأ الآباء القدّيسون واحة الإيمان والصومعة الخاصّة بهم.

كانت حالة رهبان دير أوبتينا بوستين بسيطة في بداءتها. لفترة طويلة أمّنوا قوتهم فقط بالاعتماد على الصيد ونقل الراغبين بالقوارب عبر النهر. لكن بعد أن أدخل القيصر بطرس الأكبر إصلاحاته في البلاد، فقد الدير حتّى هذا الدخل، وفكّروا بإغلاقه، لأنّه لم يكن مربحًا. نجاة الدير كانت معجزة، وليس هذا وحسب، بل بدأ بالتعافي والنموّ في الحجم بعد أن تلقى دعمًا مادّيًّا خاصًّا في عهد الأمبراطور بافل الأوّل.

بدأت مرحلة جديدة للدير في العام 1821، عندما وصل المتروبوليت فيلاريت إلى السلطة، فأسّس محبسة القدّيس يوحنّا المعمدان في أوبتينا هيرميتاج، وأرسلوا إليها رهبانًا ناسكين عاشوا وفق تعاليم باييسيوس فيليشكوفسكي. كان هؤلاء النسّاك على دراية جيّدة بالجوانب النفسيّة للتفكير البشريّ ولديهم معرفة كبيرة بالقوانين الروحيّة. دُوّنت أسماء هؤلاء الآباء الحكماء وحفظت حتّى يومنا هذا، وهم الذين استطاعوا شفاء الناس ليس فقط روحيًّا، ولكن أيضًا جسديًّا عبر المعجزات والتنبّؤ بالمستقبل ورؤية الماضي في الكتب الرهبانيّة.

اعتنت رهبنة «أوبتينا بوستين» دائمًا بالأيتام والفقراء والمعوزين، وكان للدير مستشفى ومدرسة. على مرّ السنين، اكتسبت كاتدرائيّة Vvedensky المقدّسة داخل أوبتينا، شهرة في جميع أنحاء البلاد، وتوافد الآلاف من الحجّاج إليها والتمسوا النور الروحيّ من كبار نسّاكها، فأضحى دير أوبتينا بوستين معقلًا قويًّا للروحانيّة الروسيّة، حيث مرّ فيه وتشبع من روحانيّته كبار أدباء روسيا وعظمائها وأبرزهم: جوكوفسكي، تيوتشيف، تشايكوفسكي، يسينين، تسيولكوفسكي، سولوفيوف، ليونتيف وتولستوي.

يبتعد الدير عن بلدة Kozelsk نحو كيلومترين. يعبر الى جانبه نهر زيزدرا ويمرّ على طول بستان الدير الجميل. بين 1832و1839، بُني سور منخفض وأربعة أبراج عند الزوايا المحيطة بالدير. الدير مربّع الشكل، في الوسط المعبد الرئيس للدير - كاتدرائيّة Vvedensky ويحوط بالكاتدرائيّة عدد آخر من الكنائس. في الشمال: كنيسة مريم المصريّة التي تمّ تحويلها في العام 1858 من قاعة طعام إلى كنيسة. في الجنوب كنيسة قازان، التي بنيت في العام 1811، في الشرق كنيسة فلاديميرسكايا (أعيد ترميمها في العام 1999). ويوجد خلف بستان الدير مهجع للنسّاك (الإسقيط) وحوله بستان أرز لا يستطيع أحد دخوله إلّا الرهبان، وصنع سياج الإسقيط من الخشب.

يرتبط العديد من الأعمال العظيمة في الأدب الروسيّ بـدير أوبتينا، فقد وصله دوستويفسكي مباشرة بعد مأساة صعبة مرّ بها وهي وفاة ابنه في العام 1877. لم يبق دوستويفسكي هناك لفترة طويلة، لكنّ الكثير من التفاصيل التي كتبت في روايته «الإخوة كرامازوف» جاءت تحت انطباع الرحلة. كما كان بين ليو تولستوي ودير أوبتينا بوستين علاقة خاصّة: شقيقته كان راهبة مبتدئة في الدير؛ كما أنّ والدته رقدت في مقبرة أوبتينا هيرميتاج. وقد بنيت تفاصيل قصّة تولستوي «الأب سرجيوس» وبقدر كبير من وحي دير أوبتينا.

كانت هناك مكتبات كبيرة في الدير، نُقلت في العام 1929 إلى مكتبة لينين في موسكو. بعد إغلاق الدير، تحوّل إلى استراحة للجيش الأحمر وسمّي باسم مكسيم غوركي، وبعدها تحوّل الدير من العام 1939 إلى العام 1940 إلى معسكر اعتقال سمّي معسكر كوزلسكي، حيث احتجز فيه أكثر من أربعة آلاف جنديّ وضابط بولنديّ قاتلوا ضدّ الجيش الأحمر. من العام 1952 إلى العام 1989 أصبح الدير مدرسة زراعيّة. في العام 1989 أعيد الدير إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة، والآن أصبح تابعًا للبطريركيّة، وعميده هو بطريرك موسكو وعموم روسيا.

إلى ذلك فإنّ دور هذا الدير في الحياة الروحيّة والعامّة الروسيّة كبير ومركزيّ، فهو يرتبط بعلاقات مميّزة بالمركز الروحيّ «الثالوث المقدّس - القدّيس سرجيوس لافرا» ويعتبران مركزين روحيّين روسيّين كبيرين إذ أُحيطا بالعديد من أوجه الشبه في عصور مختلفة من تاريخ روسيا.

شارك دير سرجيوس بشكل مباشر في إحياء روسيا، التي أحرقها التتار، وفي إنشاء دولة موسكو. وتشكّلت فيه فكرة وحدة الشعب الروسيّ في المسيح، وفكرة روسيا باعتبارها روما الثالثة، الوريث الأخير والكامل للأمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة الآفلة.

أمّا دير أوبتينا فأدّى دورًا مفصليًّا في تحويل روسيا مجدّدًا إلى مركز روحيّ أرثوذكسيّ وجاء دوره مشابهًا لدير سرجيوس في تشكيل الدولة.

من المهمّ أن نفهم أنّ الأمبراطوريّة الروسيّة في القرنين الثامن عشر والعشرين مع عاصمتها سانت بطرسبورغ تطوّرت، على عكس موسكو، كدولة علمانيّة. ولكن رغم كلّ شيء في ظلّ هذه الظروف الجديدة تمامًا تمّ الحفاظ على روح الأرثوذكسيّة الشرقيّة. وكانت رهبنة أوبتينا تذكّر الدولة دائمًا بحضورها، عبر خدمتها لـ«الدولة المقدّسة» عبر حملها أسمى رسالة إلهيّة.

كلّ الحياة الخاصّة والعائليّة وحتّى السياسيّة في تلك الفترة حملت بصمة الكنيسة. شكّل الدين بداءة الحياة العامّة، ولذلك وفي مثل هذه الحالة كان هناك موقف مختلف تمامًا تجاه الرهبنة، كمؤسّسة كنسيّة تعبّر عن المُثل الإنجيليّة في خدمتها.

في نظر المجتمع كان الرهبان قادة كنيسته وحياته العامّة وشفعاءه، ومناضلين لا يقهرون من أجل الحقّ، ومبشّرين بالحقيقة ذاتها. لذلك كان لهم تأثير كبير في الناس ونالوا الاحترام من جانبهم... كان صوت الرهبان للحقيقة المسيحيّة مسموعًا دائمًا وفي كلّ مكان؛ لم يتوقّف رغم التهديدات والعذابات. كان هذا الصوت بعيدًا عن أيّ ميول وروح حزبيّة.

كان دير أوبتينا على الدوام صرحًا للثقافة والتعليم. فرض الدير  على رهبانه معرفة القراءة والكتابة ليتمكّنوا من قراءة الأعمال الآبائيّة. في الأديرة وقبل كلّ شيء لم يهتمّوا بالحياة اليوميّة، ولكن باكتساب رهبان الكنيسة الوعي الأرثوذكسيّ. كان تشكيلها مستحيلًا من دون قراءة الآباء القدّيسين والراقدين والإرشاد الروحيّ من رؤساء الأديرة ذوي الخبرة. لهذا يسمّي القدّيس غريغوريوس بالاماس الأديرة بالأماكن «المكرّسة لفكر اللَّه».

من المفيد الإشارة إلى أنّ تكوين الوعي الذاتيّ الأرثوذكسيّ الروسيّ جرى في مراكزها الروحيّة التي منها دير أوبتينا تحديدًا.

في هذا المكان المشبع بالتعبّد تستيقظ القوى الروحيّة: سواء في الإيمان أو في الشعر أو في الفنون الجميلة. ما ساعد على أن تشعل روسيا القديمة ثقافتها مباشرة من النار المقدّسة في هذا الدير وفي الأديرة الأخرى المشابهة، لتتدفّق إشعاعات تعود وتنتشر لتملأ روح الشعب الروسيّ بالعزّة والفخار.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search