بتوليّة الأسقف (وجهة نظر)
غسان الحاج عبيد
تريّثت طويلًا قبل أن أُقارب هذا الموضوع، أوّلًا تقديرًا منّي لدقّته، إن على المستوى الإكلزيولوجيّ (لاهوت الأسقف) أو على المستوى الرعائيّ. وثانيًا تحاشيًا منّي لأيّة مَعثرة قد يتسبّب بها طرحه. فليس يخفى عنّي أنّ مجرّد طرحه قد يُحدث في أوساط المؤمنين والإكليروس خضّة. غير أنّي رأيت أنّ خضّةً كهذه، فيما لو حَصلَت، تبقى أخفَّ وطأةً وأقلَّ ضررًا من الخضّات التي تُحدثها زلّات الأسقف، هنا وثمّة. فالمُشاهَد في أوساطنا – وقد بات شبه مألوف – ما عـاد من الجائز العبور عنه قبل التعليـق عليه أو مقاربته نقديًّا، ولو بمجرّد وُجهة نظر – قابلة للنقاش طبعًا – ليس إلّا. لذا، حَسَمت تردّدي وقرّرت أن أكتب. وعاهدت نفسي، وأُعاهد القارئ، أن يكون ما سأكتبه في هذه العجالة دقيقًا، مُسنَدًا، بعيدًا عن الاعتباطيّة وعن الإدانة – وهذا هو الأهمّ – فلا يكون فيه ما يُعثِر. أمّا المُشاهَد في أوساطنا الكنسيّة – وقد بات يبعث على القلق – فأعني به ما بتنا نشكو منه عند بعض الإكليريكيّين – ومن بينهم أساقفة – من زلّات مُعثرة، مُتّصلة بالجنس أو بالمال أو بالاثنين معًا، يتشكّك بسببها المؤمنون وينجرح وجدانهم، كما أنّها تُلحق بسمعة الكنيسة أذًى كبيرًا، وتزيد على مسامير المصلوب مسامير، لأنّ فيها خيانةً عُظمى للذي قال: «الويل لِمَن تأتي على يده العثرات» (متّى 7:18).
وبعد؛ تَعَلَّمنا في الكنيسة أنّ الأسقف هو أيقونة المسيح الحيّة وسطَ شعبه، وهو رمز الحمل الذي تتحلّق حوله الجماعة الشكريّة فتتشكّل به. ولعلّ هذا ما ذهـب إليـه القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ لـمّا قال: «حيث الأسقف هناك الكنيسة». وهذه المركزيّة التي لـه هي مـا يفسّر تبـخيره أوّلًا عنـد تـرؤُّسه الخدمة الإلهيّة. وفي هذا السياق، وربطًا بالعنوان، لست أرى أنّ بتوليّة الأسقف هي التي تُعزّز عنده هذه الأيقونيّة وتصونها، ولا أنّ كـونه متـزوّجًا يُنقِص مـن أيقـونيّته شيئًا. فقبلَه كان بطرس هامة الرسل متزوّجًا، وكذلك كان سائر الرسل، ما عدا يوحنّا الحبيب. هذا ما نعلمه من التقليد الشـريف. ويتبيّن لـنا من القانون الـ 25 من قوانين مجمع أنطاكية المكانيّ الذي انعقد في صيف سنة 341 وضمّ 97 أسقفًا، جميعهم من الشرق ومعظمهم من بطـريركيّة أنطـاكية، أنّ الأسـقف كاـن، حتّى القرن الرّابع، متزوّجًا. فقد نَصّ هذا القانون على التالي(١): «لتكن للأسقف السلطة على أموال الكنيسة ليتصرّف بها بكلّ تقوًى وبمخافة اللَّه، ويوزّعها على المحتاجين. وعند الاقتضاء ليأخذ ما يطلب لحاجاته الضروريّة وحاجات المقيمين معه حتّى لا يكونوا في عَوز، حسب قول الرسول الإلهيّ: «فإذا كان لنا القُوت والكِساء فإنّا نقتنع بهما (1تيموثاوس 8:6)». وإذا لم يقتنع، وأَخذ يستعمل الأموال لأغراضه الخاصّة، ولم يُحسِن إدارة دَخل الكنيسة... ومنح السلطة لذويه وأقربائه، أو إخوته وأولاده... فيجب على مجمع الأبرشيّة أن يقوم بفحص الإدارة والمحاسبة...».
إلاّ أنّ مجمع نيقية، الذي انعقد سنة 325، قضى في قانونه الثالث(٢)، بأن «يُمنَع منعًا جازمًا على أيّ أسقف أو كاهن أو شمّاس أو إكليريكيّ أن تسكن معه في بيته امرأة أجنبيّة ما لم تكن أُمّه أو أخته أو عمّته أو خالته، وهي منزّهة عن كلّ شبهة أو رِيبة»؛ وليس هذا، فقط، ضمانًا للعفّة، وإنّما، أيضًا، لأسباب تدبيريّة تتعلّق بتوريث الأساقفة أقاربَهم وبطمعهم بأموال الكنيسة وأوقافها. ولذلك فرضت الكنيسة أن يُؤتى بالأسقف من الدير، أي من بين الرهبان، فيلتحق هذا الأخير بدار مطرانيّته مصحوبًا ببعض الرهبان لمساعدته على إدارة أبرشيّته؛ وهكذا ينقل معه قلّايته. وهذا ما يفسّر أنّ الكثيرين من عامّة المؤمنين ما زالوا، إلى اليوم، يَدعُون دار المطرانيّة “قلّاية”. وما قضى به مجمع نيقية في قانونه الثالث قضى به، أيضًا، قانون يوستنيانوس Le droit de Justinien الذي صدر عام 533 ونصّ على أنّ الأُسقف يُؤتى به من الرهبان، أي من بين رجال الدين الذين ليس لهم وَرَثة، حتّى لا يُصار إلى هدر ممتلكات الكنيسة، هذه الممتلكات التي كانت تشكّل، في بيزنطية، ثروات هائلة.
مع ذلك، يبقى أنّ العنصر الحاسم في أيقونيّة الأسقف، برأيي، هو أن تتوفّر فيه المواصفات التي يعدّدها بولس في رسالته الأولى إلى تلميذه تيموثاوس حيث يتكلّم على الأسقف، والتي يبدو واضحًا فيها – وهو ما يهمّني في هذا السياق – أنّه لا يمانع في أن يكون الأسقف متزوّجًا، شرط أن يكون زوج امرأة واحدة؛ يقول: «إنّه لَقولٌ صدقٌ أنّ من رغب في الأسقفيّة تمنّى عملًا شريفًا. فعلى الأسقف ألّا يناله لوم، وأن يكون زوج امرأة واحدة، وأن يكون قَنوعًا، رزينًا، مُهذّبًا، مضيافًا، أهلًا للتعليم، غير مُدمن للخمر ولا مُشاجرًا، بل حليمًا، لا يخاصم ولا يحبّ المال، يُحسن رعاية بيته ويحمل أولاده على الخضوع بكلّ رصانة. فكيف يُعنى بكنيسة اللَّه من لا يُحسن رعاية بيته؟ وينبغي ألّا يكون حديث الإيمان لئلّا تُعميه الكبرياء... وعليه، أيضًا، أن يشهد له الذين في خارج الكنيسة شهادةً حَسَنةً لئلّا يقع في العار وفي فخّ إبليس». (1 تيموثاوس 1:3- ٧).
فما دامت بتوليّة الأسقف قانونًا تدبيريًّا، كما رأينا، وطالما أنّها ليست العنصر الحاسم في أيقونيّته وأهليّته، وتاليًا في فَلاحِه، فلماذا لا يُصار – بالمنطق التدبيريّ عينه – إلى إعادة النظر فيها، لا كحلّ نهائيّ إنّما كجزء من حلّ للمشاكل التي تخلقها زلّات بعض الأساقفة وقد باتت – وللأسف – متكرّرة؟ لقد آن، برأيي، الأوان لأنْ تُطرح هذه المسألة على بساط البحث وأن تتمّ، بالحدّ الأدنى، إعادة النظر فيها.
إنّ الظروف التي يقيم فيها الكثيرون من أساقفتنا في دُور مطرانيّاتهم، والتي غالبًا ما لا يُحسدون عليها، تدفعني إلى إبداء ما يلي: إنّه لَمن المفيد جدًّا للأسقف أن يكون مُحاطًا بعائلة (زوجة وأولاد)، لأنّ الجوّ العائليّ يُنقذه من العزلة القاتلة التي يشعر بها إذا لم يكن مُحاطًا بجماعة مقيمة معه، يتشارك وإيّاها الصلوات والخلوات والأحاديث المفيدة، فتوفّر له نصيبًا من الاستقرار النفسيّ والاستقرار الروحيّ. وعلاوةً على هذا، فإنّ العائلة مختبَر مهمّ جدًّا لأهليّة المرشَّح للأسقفيّة: فمن أثبت أهليّته لرعاية القطيع الصغير (الزوجة والأولاد) يقام راعيًا للقطيع الكبير الذي هو عائلة المسيح، أي الكنيسة، وذلك عملًا بما قاله الرجل المسافر، عند عودته، لعبده الأمين: «أَحسنتَ أيّها العبد الصالح الأمين! كنتَ أمينًا على القليل، فسأُقيمك على الكثير: أُدخل نعيم سيّدك» (متّى ٢٥: ٢١). ولا شكّ عندي في أنّ جوًّا عائليًّا كهذا يحفظ الأسقف من تجارب مُؤذية قد تساوره إذا كان وحيدًا، ويُعتقه من ميول رديئة قد يحرّكها فيه شغب الجسد، وهي مؤذيةٌ لدرجة أنّ الرهبان أنفسهم أقرّوا بخطرها عليهم وضرعوا إلى اللَّه من أجل أن ينقذهم منها، لا سيّما في ساعات الظلام الليليّة، فقالوا – ونقول معهم في صلاة النوم – «بَطِّل شغب أجسادنا وأَرقِد كلّ معقولنا الأرضيّ الهيولانيّ...». وما يعزّز اقتناعي بهذا الأمر أنّ الشأن الرعائيّ في كنيسة هذه الديار ما عاد مهمّة الكهنة وحدهم، بل صار، بجانب منه لا يستهان به، مهمّة الأسقف أيضًا ويحتلّ في مفكّرته حيّزًا واسعًا. إنّ الأسقف عندنا، وبسبب من الدور الذي تنتظره منه الرعيّة – لا سيّما في بيئاتنا الاجتماعيّة ذات الخصوصيّات – أن يضطلع به، لكونه، في مفهومها، واجهة «الطائفة» ورمز حضورها في النسيج الاجتماعيّ، مطلوبٌ منه – ولا خيار له في معظم الأحيان – أن يكون حاضرًا في مناسبات الناس على اختلافها، الكنسيّة والمدنيّة، وحتّى السياسيّة (أعراسٌ فيها الكثير من الإباحيّة والـمفاتن المؤذية، مآتم، لقاءات دينيّة مختلَطة، لقاءات وطنيّة، محافل اجتماعيّة ذات تلاوين، لقاءات تربويّة، مآدب فيها الكثير من البذخ... إلى ما هنالك). هذه كلّها تجعله على اتّصال مباشر بالناس، وتجعله، تاليًا، عرضة لتجارب كثيرة، ما لم يكن ذا منعة روحيّة قويّة ومحصَّنًا بما يحميه؛ والعائلة مشروع حماية.
مع ذلك، ورغم أنّني أُحبّذ، تدبيريًّا ورعائيًّا، وللاعتبارات التي أَنَف تفصيلها، أن يكون الأسقف متزوّجًا، وأطالب بهذا، إلّا أنّه لا يفوتني أنّ زواج الأسقف، ولو ضروريًّا، لا يكفي وحده؛ فَمَن كانت نفسه أمّارة بالسوء لا يعفّ، ولو متزوّجًا، عن ارتكاب المعاصي. من هنا ضرورة أن يُرفَد هذا التدبير، عند الاقتضاء، بإِعمال القوانين وتطبيقها مُساءَلةً ومحاسبةً وتأديبًا.
أَطرح هذا كلّه من دون أن يغيب عن بالي، بطبيعة الحال، أنّ هذا الملفّ (بتوليّة الأسقف أو زواجه) ملفّ يجب أن تتقاطع لدراسته جهود كبيرة يبذلها اختصاصيّون في اللاهوت والرعاية والتربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، وفي كلّ ما يتّصل به من قوانين الكنيسـة. علـمًا أنّ أيّة نتيجة قـد تُفضـي إليـها هذه الدراسة يجب أن تأخذ في الاعتبار الكيفيّة الكنسيّة، لكون المسألة المطروحة مسألةً شائكةً وبالغة الدقّة، بحيث إنّ مجرّد النظر فيها أمر يستوجب، ربّما، توافق الكراسي الأرثوذكسيّة قاطبة عليه. مع هذا، أرى أنّه آن الأوان، ولو بالحدّ الأدنى، أن يُفتَح هذا الملفّ، وكم أتمـنّى لـو تكـون كـنيسـتنا الأنطاكيّة هي السبّاقة إلى فتحه. وأغتنمها مناسبة، في هذا السياق، لأُورد معلومة تُفيد أنّ المثلّث الرحـمة البطـريرك الأنطاكيّ إلياس الـرابع (معوّض) كثيـرًا ما تـمنّى لـو أنّ المجمع الأنطاكيّ المقدّس يأخذ المبادرة ويُعيد الـنظر في بتـولـيّة الأسـقف. ففـي الأوّل مـن تشرين الأوّل 2022 كتب الأستاذ شفيق حيدر على صفحته الفايسبوكيّة، وتحت عنوان «زواج الأسقف في العصر الحديث»، الفقرة التالية: «إنّ هذا الموضوع الذي رأيناه أمرًا طبيعيًّا في تاريخ الكنيسة وضميرها، على مَرّ العصور وأَورَدنا بشأنه الشواهد والنصوص وإثباتات مُؤيِّدة، طرحه، أيضًا، على ضمير المؤمنين الأنطاكيّين البطريرك إلياس الرابع (معوّض) (1914 – 1979) للتأمّل والدرس، وذلك إثر قرار اتّخذه المجمع المقدّس برئاسته في عهد بطريركيّته (1970 – 1979). وقَبِلَ الناس الفكرة وبدأ المؤمنون بالتداول بها. ولكنّ الموت عاجَل غبـطته فَغـادر دُنيـانـا ولـم يتسَنَّ لـه أن يـتابع المشروع الذي آمَنَ به نافعـًا لأنطاكية ونهضتها، عــلمًا بـأنّـه هـو الـراهـب المكـرَّس للَّه وخـدمـة حملانه منذ مطلع شبابه. آمن إلياس الرابع بأنّ العـائـلة مدرسة للتضحية والتواضع، وهي شافيةٌ مـن الأَحَديّة والتسلّط والطّغيان ومُدرّبة على المـعيّة والطّاعــة الفعـليّة، وفيها نَبرأ من انتفاخ الأنا، ونتخلّص من لَظى صحراء الوحدة القتّالة».
والســلام