دور المجامع في فكر الأب جون رومانيدس
الشمّاس فادي واكيم
مقدّمة:
الأب جون (رومانيدس) اسم ليس بقديم. إنّه من الآباء المعاصرين الذين لمعوا في الكنيسة الأرثوذكسيّة؛ عرفه الكثيرون ممّن هم اليوم على قيد الحياة (أطال الله بعمرهم) وعاصروه، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، راعي أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما المتروبوليت أفرام «كرياكوس»، والأب جورج (عطيّة) اللذين تتلمذا على يده، إضافة إلى المتروبوليت جورج (خضر) راعي أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما جبل لبنان (سابقًا)، وغيرهم من الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيّين.
للأب جون (رومانيدس) دراسات عدّة لكنّ معظمها لم يُنشر. أعدّ أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول موضوع «الخطيئة الجدّيّة». شارك في كثير من الحوارات اللاهوتية مع غير الأرثوذكس، بخاصّة مع الأنكليكان، كذلك مع المسلمين واليهود.
أهمّيّة المجامع في الكنيسة:
للمجامع المسكونيّة دور كبير في إرساء قواعد الإيمان القويم في الكنيسة، ودحض الهرطقات والبدع الكثيرة التي عصفت بها ولم تستطع زعزعتها قطّ.
كما عمل الرسل، بقوّة الروح القدس ونعمته، على تأسيس الكنائس، وأشرفوا عليها، وأيضًا الآباء دافعوا بشراسة للحفاظ على التعليم القويم الذي تسلّموه وسلّمونا إيّاه، ولم يرضخوا للتهديدات والتعذيبات؛ ومن أهمّ ما تسلّمناه من المجامع المسكونيّة «دستور الإيمان» المعروف باسم «دستور الإيمان النيقاويّ القسطنطينيّ»، نسبة إلى مدينة نيقية مكان انعقاد المجمع المسكونيّ المقدّس الأوّل الذي دحض بدعة آريوس، ووضع القسم الأوّل من دستور الإيمان، وهو المتعلّق بالآب والابن، إضافةً إلى القسطنطينيّة التي انعقد فيها المجمع المسكونيّ الثاني الذي وضع القسم الثاني المتعلّق بالروح القدس والكنيسة الواحدة والمعموديّة الواحدة وقيامة الموتى، مُكمّلًا، بذا، الدستور، بعد دحض بدعة بطريرك القسطنطينية مقدونيوس حول الروح القدس. إضافة إلى سائر المجامع المسكونيّة التي رفعت الأيقونات، وحافظت على مكانة والدة الإله، والطبيعتين الكاملتين للمسيح الإلهيّة والبشريّة... كذلك للمجامع المحلّيّة دورٌ كبير في الحفاظ على الكنيسة وتعاليمها، فقد أدانت آريوس ونسطوريوس وغيرهما حتّى قبل انعقاد المجامع المسكونيّة.
تكمُن أهمّيّة هذه المجامع في أنّها كانت تأتي بمشاركة المختارين في الرعايا من الآباء والرسل. أمّا الغاية الأساسيّة والرئيسة من انعقادها فهي إيجاد الأطر الصحيحة لتطهير المؤمنين وشفائهم واستنارتهم لكي يتمجّدوا.
أ- دور المجامع في الكنيسة
إنّ كلّ فكر يقود إلى التطهُّر والتمجّد هو فكر أرثوذكسيّ(١)، أمّا ما يقود إلى الضياع فليس فكرًا مستقيمًا، بل فكرٌ هرطوقيٌّ.
فإظهار الكلمة الحقّ هو الأساس والهدف من المجامع. ومفهوم العقيدة الأرثوذكسيّة هو مفهوم رعائيّ، ولا معنى للعقيدة خارج الشفاء الذي يقود إلى الكمال.
الآباء المستقيمو الرأي، منذ البداءة وحتّى يومنا هذا، لم يفهموا العقيدة ولم يُشاركوا أوغسطين في فكره القائل إنّه، مع عبور الزمن، تستطيع الكنيسة فهم الإيمان أكثر. فالإيمان باللَّه واضحٌ وصريح فإمّا أن نقبله أو نرفضه، واللَّه، في خليقته، لا يُميّز بين المتعلّمين وغير المتعلّمين، فالكلّ سواسية، ولا فرق بين أحد من حيث معرفة الحقيقة المطلقة أي اللَّه، فهذا لا يتطلّب علمًا بل استنارة، وهذا يعني الإيمان؛ فمن الرسل القدّيسين من كان صيّادًا ومنهم من كان طبيبًا، ولا فرق بين الاثنين لأنّ الجميع دعوا البشر وجذبُوهم إلى تقبُّل كلمة الربّ وعيشها.
ب- علّة الإنسان:
الإنسان مريض بحبّ ذاته أوّلًا، «فكثيرون ممّن عرفوا اللَّه لم يمجّدوه كإله أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبيّ» (رومية 21:1- 24:1- 5:2)(٢). الإنسان نفسه يحكُم على نفسه بالموت الروحيّ حتّى قبل موت الجسد، أي وهو بعد حيّ على هذه الأرض، وذلك بتغرّبه عن ربّه، ويربط كلّ شيء «بالأنا» ويُصبح فريسةً لها، ما يشوّه المحبّة الحقيقيّة التي منحنا إيّاها اللَّه بتجسّد ابنه الوحيد وموته على الصليب وقيامته المجيدة.
لذلك، علينا أن نُطهّر أنفسنا أوّلًا من كلّ الأفكار من دون استثناء (2كورنثوس1:7).
وكي نصل إلى الشفاء الكامل، علينا أن نكون دائمًا في حالة سلام، وهذا لا يأتي إلّا من طريق الصـلاة المستمدّة من القلب، والتي تنزل من العقل إلى القلب فتحرّره من كلّ أفكار العبوديّة، وحبّ التملُك، والتسلّط. من هنا نبدأ بالحصول على الدواء الشـافي الوحـيد لخلاـصنا، لأنّنا نـقـدّم قـلبنا كاملًا للَّه. عندئذٍ يتقبّل القلب الصلوات التي ينقلها الروح من العقل إليه.
ج- معالجة النفس:
تناول الأب (رومانيدس) موضوع المجامع وتحدّث عنها بطريقة متميّزة جدًّا، إذ وصفها بعيادات لطبّ النفس، لأنّ كلّ من هو مريض نفسيًّا يلجأ إلى مثل هذه العيادات لتلقّي العلاج والتماثل إلى الشفاء. أيضًا من جدّف على اللَّه وخرج على التفسير الحقيقيّ للكلمة فملجأه الوحيد هذه العيادة، وطبيبه الوحيد القادر على الشفاء هو اللَّه نفسه، عبر الألسنة التي وهبها للرسل. من هذا المنطلق رأت الأمبراطوريّة الرومانيّة أهمّيّة المجامع وأدخلتها ضمن دستور قوانينها.
دخل الأب (رومانيدس) عمق الإنسان ليُظهر أهمّيّة المجامع ودورها في إرساء قواعد العمق الدينيّ واللاهوتيّ في الكنيسة؛ فحمل على عاتقه هذا الحمل، وتحدّث كطبيبٍ ومعالجٍ نفسانيّ ليُقرّب الصورة ويوضحها للجميع.
فهو القائل: «من هو مريض نفسانيًّا هو بحاجة إلى طبيب مختصّ حسب مرضه؛ فكلّ فرد بحاجة إلى الاستنارة والتطهّر؛ ومن استنار قلبه استنار بالكلّيّة وتنتهي به الحياة إلى التمجّد، ومن وصل إلى هذه الحال خرج من حالة الأنا والحبّ الذاتيّ لنفسه، إلى الحبّ المطلق الذي لا يطلب شيئًا لنفسه»(٣).
بهذه النظرة ومن هذا المنطلق عمل الآباء القدّيسون وجاهدوا في المجامع المقدّسة ليحافظوا على الإيمان القويم.
د- المسيح في العهد القديم:
عمل الأب رومانيدس على إظهار صورة اللَّه في العهد القديم بصورة الابن، لأنّ مفتاح العهد القديم هو معرفة الآب الذي لا يعمل شيئًا إلّا بواسطة الابن. تكلّم الأب (رومانيدس) هذا الكلام ليُظهر أهمّيّة المجمع المسكونيّ الأوّل وليؤكّد أنّ ما ابتدعه آريوس حول الابن هو، بالتأكيد، بدعة ولا يُمكن أن نأخذ بها. فمن رأى الابن يعرف أنّه لم ير ملاكًا بل رأى أعظم من الملائكة، فهو رأى الآب نفسه. «من رآني فقد رأى الآب» (يوحنّا9:14). إنّ الأرثوذكسيّين لم يختلفوا مع الأريوسيّين على أنّ الكلمة هو السيّد المسيح نفسه في العهدين القديم والجديد، لكنّهم اختلفوا معهم حول مكانة السيّد المسيح ومساواته للآب في الجوهر والأزليّة.
هـ- الأرثوذكسيّون والهراطقة:
اتّفق الجميع، مؤمنين وهراطقة، على الكتاب المقدّس، واستندوا إليه واتّخذوه برهانًا على ما إذا كان الرسل والأنبياء شاهدوا إلهًا مخلوقًا أو غير ذلك؛ ومن الطبيعيّ أن يعمل كلّ فريق على إثبات صحّة وجهة نظره.
كذلك الأمر مع الأريوسيّين الذين توافقوا مع المسيحيّين على أنّ اللَّه أظهر مجده في ابنه المتجسّد، لكنّهم لم يميّزوا في التقليد بين الطبيعة البشريّة والطبيعة الإلهيّة، فالتقليد يقول: إنّ المخلوقات لا تستطيع معرفة جوهر اللَّه غير المخلوق، ومعرفة المخلوق من العدم. هنا اعتبر الأريوسيّون أنّ الكلمة (المسيح) أيضًا لا يعرف جوهر الآب، كما أنّه لا يشبهه في أيّ شيء، لذا هو مخلوق. أمّا الكنيسة فمن الطبيعيّ أن ترفض ذلك لأنّ تعليمها لا يتطابق قطعيًّا مع هذا الكلام، وتؤكّد أنّ المسيح الكلمة هو من صُلب جوهر الآب ومُساوٍ له في كلّ شيء، ويملك كلّ ما هو في طبيعة الآب ما عدا الأبوّة، لأنّ الثالوث: الآب والابن والروح القدس أقانيم متساوون في الجوهر وغير منفصلين أو منقسمين، لكنْ لكلّ واحدٍ دوره: الآب الأزليّة والمصدريّة، الابن الاتّلاد أو التمولوديّة، والروح القدس الانبثاق وتوزيع المواهب.
أمّا الأريوسيّون فكانوا يقولون بأنّ كلّ شيء، حتّى المسيح، هو نتاج المشيئة الإلهيّة. فبهذا الكلام يُصبح الابن أدنى مستوًى من الآب، وهذا الكلام يُناقض كلّ ما جاء في الكتاب المقدّس: «الكلمة صار جسدًا وحلّ فينا» (يوحنّا14:1).
إنّ ايماننا، بحسب الكتاب المقدّس والتقليد الشريف المنقول إلينا عبر آباء الكنيسة، «هو واحد، وهو يُشرك كلّ مخلوق مع الكلمة»، فهو خلقنا ونحن شبهه، كما دعانا أيضًا لنكون كاملين: «كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماويّ كامل» (متّى 48:5)، وقدّيسين: «كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس» (1بطرس 16:1). هذا يؤكّد أنّ كلّ إنسانٍ يستطيع أن يتمجّد، وذلك باتّحاده مع اللَّه في الكأس المشتركة، فمن يأخذ جسد المسيح ودمه يأخذ المسيح كاملًا وليس جزءًا منه.
فما هو التعليم الواجب دحضه والآخر الواجب قبوله؟ أهو التعليم الذي دحضه الآباء ورفضته الكنيسة والمجامع، أم الذي حافظت عليه من دون تردّد؟
و- الملاك الكلمة:
اختلف الأرثوذكسيّون مع الآريوسيّين والأفنوميّين حول «الملاك» الذي تحدّث عنه الكتاب المقدّس في العهد القديم. أهو نفسه الكلمة المتجسّد أم لا؟ وكان الهدف الأساس من هذا الجدل تأكيد المسيحيّين للبدعتين المذكورتين أنّ الأقنوم الثاني الابن هو أزليٌّ مولودٌ غيرُ مخلوق، وأنّ هذا الملاك الذي بواسطته حصل الأنبياء على النعمة الإلهيّة هو مصدر للحياة، كما عرّف عن نفسه بكلمة «أهْيه الذي أهْيه» أي «أنا هو الذي هو» (خروج14:3) و (يوحنّا24:8). أيضًا، نجد آيات في الكتاب المقدّس تُظهر دعوة الملاك واللَّه في آنٍ معًا، وهذا تأكيد لكون المدعوّ هو يسوع المسيح المولود والأزليّ، غير المحدود في مكانٍ أو زمانٍ، ويُعلن إرادة اللَّه لقدّيسيه: «الحقّ الحقّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم، أنا هو» (يوحنّا 58:8)، (تكوين 7:16)، (خروج2:3)، (أعمال30:7).
المسيح الذي بذل نفسه تجسّد، وتألّم طوعًا ليُحرّرنا من عبوديّة الخطيئة، فمن الطبيعيّ أنْ يكون هو نفسه الذي سار أمام الشعب وقادهم من العبوديّة إلى الحرّيّة، بمعنًى آخر «الذي هو» دائمًا وأبدًا يكون أمامنا. ويقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ في كتاب ضدّ أفنوميوس «إنّ النبيّ، لكي يُظهر للناس سرّ المسيح، سمّاه» الذي «هو» و«الملاك»(٤).
هذا النقاش كان أساسًا في المجمعين المسكونيّين الأوّل والثاني، ومفتاحًا رئيسًا لبقيّة المجامع المسكونيّة، لأنّه، متى تمّ تثبيت هذا الكلام أو بالحريّ هذا الإيمان، لا يستطيع أحد أن ينقضه أو يتخطّاه في ما بعد.
ز- الروح القدس:
ما يتعلّق بالأقنوم الثاني، المسيح، المتجسّد، يتعلّق بالأقنوم الثالث الروح القدس. فكما أنّ المسيح أزليّ، كذلك الروح القدس هو أزليّ أيضًا ومساوٍ للآب والابن في الجوهر، عكس ما أخذ مقدونيوس يُبشّر به، والذي استدعى عقد المجمع المسكونيّ الثاني، فأكمل كتابة دستور الإيمان «وبالروح القدس، المنبثق من الآب، الذي هو مع الآب والابن مسجودٌ له وممجّد...».
الخاتمة:
ما تكلّم به الأب (رومانيدس) من الجهة العقيديّة ليس بجديد، إنّما الجديد هو في معالجته للموضوع، إذ نقل الموضوع بطريقةٍ جديدةٍ ومعيوشة، كوصفه للمرض، وطريقته في علاجه. فحثّ البشر على النظر أمام المرآة بعين مُجرّدة، وقبولهم الواقع، والاستعانة بالاختصاصيّين كي يتطهّروا من أخطائهم للوصول إلى غاية اللَّه: «التألّه».
ما ظهر في فكر الأب (رومانيدس) دلالة واضحة على أنّ الكنيسة غير جامدة، ولم تتوقّف، في زمنٍ ما عن الحركة. بالعكس، هي متجدّدة دائمًا، ومُعاصرة، لـذا ليس بالأمر المستغرب أن نرى، بصورة دائمة وفي كلّ الأزمان آباء، ومعلّمين، وقدّيسين، فالمسيح «هو هو أمس واليوم وغدًا، إلى منقضى الدهر» كما وعد.
فبشفاعات آبائنا وجميع القدّيسين احفظ يا ربّ كنيستك من الذئاب واملأها بالمستنيرين بنور معرفتك الإلهيّة، آمين.