لا أكتب هنا في مضمار التاريخ، بل عن شخص جعل نفسه جسر عبور بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأديان والمذاهب. شخص اهتديت إليه عبر شخص معاصر، متسامح، غفور. كان مثله جسرًا حضاريًّا بين الغرب والشرق. وكأنّه أراد أن يردّ الجميل إلى ذلك الشيخ الجليل من القرن الثالث عشر. وهاتان الشخصيّتان هما جلال الدين الروميّ والأب أنطوان لامنس(١)، ابن أخي العلّامة اليسوعيّ هنري لامنس.
هذا النصّ هو عربون وفاء وإجلال لروح الأب أنطوان لامنس الذي طبع فيّ دمغة لا تمحى. كشف لي عشقه للسيّد المسيح، مثل جلال الدين الروميّ، كان معجبًا بكلّ ما صنعه الربّ من جمال الطبيعة، جمال البشر رغم بشاعة أعمالهم، وتجلّيات هذا الجمال كانت له الأيقونات المقدّسة التي بواسطتها ردّ البشر الشكر لخالقهم. كما كان جلال الدين الروميّ متسامحًا ومحترمًا الفوارق الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والعرقيّة. كذلك كان الأب لامنس يرفض أيّ تفرقة عنصريّة ودينيّة. كان يقول لي دائمًا «ما لك أن تدين، اللَّه محبّة». قال لي مرّة تمعّن بموضوع هذا الشيخ الجليل الذي عاش في منطقة آسيا الصغرى في تركيا في القرن الثالث عشر، واجه التطرّف بالاعتدال والتسامح. انفتح على كلّ الأديان من دون جدال أو انتقاد، بل أخذ منها الأجمل والأحسن للبشريّة، إنّه جلال الدين الروميّ والطريقة الصوفيّة التي باتت تعرف باسم المولويّة(٢). ولذلك سوف أتطرّق هنا إلى المقابلة، لا بل إلى ما يجمع الصوفيّة المولويّة بالمسيحيّة أكانت شرقيّة أم غربيّة. فالمولويّة متأثّرة جدًّا بغريغوريوس بالاماس، بالقدّيس فرنسيس الأسّيزيّ وبأقوال القدّيس بولس عن المحبّة. ومن أراد التعمّق بأفكار جلال الدين الروميّ يستطيع قراءة «المثنوي» بأجزائه الستّة، والذي نُعت «بالقرآن الفارسيّ».
جلال الدين الرومي من بلخ في إيران سكن في قونيا، آسيا الصغرى في تركيا. كان باحثًا عن جمال أعمال الخالق، وعاشقًا لمهندس هذا الكون. كان مثل الحلّاج(٣)، الذي صلب لكونه قال إنّه متّحد مع اللَّه، يتوق إلى اللَّه ويتغنّى بالعشق الإلهيّ، مثل رابعة العدويّة. يرى في الطبيعة مجد اللَّه. قال يومًا إنّه تعرّف إلى قدّيس من الغرب يتحدّث مع الطيور، ويعني به القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ. لهذا السبب الرهبنة الفرنسيسكانيّة في إسطنبول لها علاقة وطيدة بالمولويّة. وجرى مؤخّرًا لقاء بين البابا فرنسيس مع المسؤول الرئيس في تركيا عن المولويّة. فالمولويّة تعطي هنا أهمّيّة كبرى للطبيعة كمقدّمة إلى معرفة اللَّه. من هنا تأثّره بالحياة النسكيّة المسيحيّة.
والأهمّ من ذلك كلّه هو أنّ المولويّة لا ترفض أحدًا. وتجعل من صوامعها ملجأ لكلّ من أراد الابتعاد عن الهموم المادّيّة، الداخليّة والدنيويّة. يقول جلال الدين الروميّ:
تعال، تعال، أيًّا كان، تعال ...
تعال، سواء كنت كافرًا أو مجوسًا أو عابدًا للأوثان.
ديرنا ليس مأوى لليأس
حتّى لو كسرت توبتك مائة مرّة، تعال ...
نستنتج أنّه إنسان متسامح، لا يفرّق بين الناس بل يجمع. لا ينتقد ولا يجادل. همّه الوحيد القرب من اللَّه، الذي هو بالنسبة إليه الحبّ كلّه. والحبّ بمعنى العشق، ليس بالمعنى البشريّ بين رجل وامرأة، لكن كما أنّ اللَّه يحبّ البشر رغم قساوة قلبه وبشاعة بعض أعماله التدميريّة كالحروب. إنّه كبولس الرسول الذي توجّه إلى أهل كورنثوس، يشدّد على المحبّة كأساس كلّ علاقة بين البشر، ويقول إنّ من يحبّ اللَّه لا يستطيع أن يبغض الإنسان الذي هو صنع اللَّه الخالق.
مثل بولس الرسول، اعتمد لائحة بأربعين قاعدة للمحبّة، معروفة بـ«قواعد العشق الأربعون». بعض المحلّلين ينسبون هذه القواعد إلى صوفيّ متجوّل هو شمس تبريز. بينما البعض الآخر يقول إنّ شمس تبريز شخص وهميّ، «الشمس» يعني بها جلال الدين بـ«واهب النور»، أي اللَّه وتبريز هي مسقط رأسه.
يروى عن جلال الدين انفتاحه على المسيحيّة، إذ تزوّج بيونانيّة بعد وفاة زوجته. قالت له إنّها أصبحت مسلمة بفعل زواجها منه، فهل تزيل أيقونة العذراء مريم من فوق سريرهما؟ فأجابها كلاّ. في الإسلام نجلّ مريم ونحترمها، فنقول «عيسى بن مريم». وكان ينبذ كلّ تطرّف إسلاميّ مناهض للمسيحيّة. وكذلك عارض ولم يرد التحدّث عن البغض بين الشيعة والسنّة. فشوقه إلى الخالق أقوى من كلّ هذه الصراعات. من يقرأ «قواعد العشق الأربعون» يرى مدى قدرة «العشق» على تحسين العلاقات البشريّة بين بعضها البعض.
لكنّ شوق جلال الدين إلى معلّم يهديه إلى «النور الإلهيّ»، فهنا لا يتّفق معه الأب أنطوان لامنس الذي يعارض في المسيحيّة فكرة «الأب الروحيّ»، بالنسبة إليه اللَّه خلق للإنسان عقلًا كافيًا كي يهتدي إلى اللَّه وتعاليمه، يستطيع قراءة ما أوصانا به عبر «الكتاب المقدّس».
وربّما، قال لي، ما جعل الإسلام ينحرف هو تعدّد تفسيرات «القرآن» وتعدّد المعلّمين، معلّمي الفقه. كما حدث في المسيحيّة والانشقاقات المتتالية عبر العصور. بالنسبة إلى الأب أنطوان لامنس المسيح هو الأب الروحيّ بامتياز.
ولست أنسى أنّ الأب أنطوان لامنس كان يجالس كلّ من يطلب المساعدة والإرشاد المعنويّ، ويقول دومًا «إقرأ الأناجيل بتمعّن وليس التحليلات»، لا يسأل محدّثه عن انتمائه الدينيّ، إن كان كاثوليكيًّا أو أرثوذكسيًّا أو بروتستانتيًّا، مسلمًا سنّيًّا أو شيعيًّا أو درزيًّا. قال لي يومًا هذا شأنه. وعندما يقولون له «ما رأيك» فلا يجاوب.n
١- ولد الأب أنطوان لامنس في شمال بلجيكا، نال شهادة في الفلسفة وتاريخ الفنّ وعلم الآثار والفنون الجميلة. اكتشف جمال الأيقونة عبر دراسة فنّ الرسم. جذبه الشرق فوصل إلى لبنان العام 1961 وتنقّل بين مناطق عدّة. إليه يعود الفضل في نقل عدد كبير من الأيقونات الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة إلى فرنسا وترميمها. أحبّ لبنان وتوفّي فيه ورثاه سيادة المطران جورج (خضر) وأبرز مؤهّلاته وأعماله وصفاته.
٢- هو محمّد بن محمّد حسين البلخيّ، وكان يلقّب بمولانا، ولد في منطقة بلخ في خراسان ما يعرف حاليًّا بأفغانستان في 6 ربيع الأوّل 604 هـ الموافق لـ 30 أيلول 1207م وتوفّي في 17 كانون الأوّل 1273م .عند قدوم المغول، هاجرت عائلته إلى نيسابور، حيث التقى الشاعر الصوفيّ فريد الدين العطّار، الذي أهداه ديوانه «أسرار نامه»، فكان الدافع إلى غوصه في عالم الشعر والروحانيّات والصوفيّة. ومن نيسابور إلى دمشق فمكّة إلى الأناضول واستقرّ في كارامان . في العام 1228م توجّه والده إلى قونية عاصمة السلاجقة بدعوة من علاء الدين كيقباد حاكم الأناضول واستقرّ فيها حيث عمل الوالد على إدارة مدرستها. تلقّى جلال الدين العلم على والده، وعلى الشيخ سيّد برهان الدين محقّق . وفي العام 1240م انتقل إلى مزاولة العمل العامّ في الموعظة والتدريس في المدرسة، وخلال هذه الفترة توجّه إلى دمشق، والتقى فيها الشيخ محي الدين بن عربي صاحب كتاب الفتوحات المكّيّة وأهداه بعض أعماله العربيّة.
كان جلال الدين مسلمًا مؤمنًا بتعاليم الإسلام، لكنّه استطاع جذب أشخاص من ديانات وملل أخرى، وبالنسبة إليه وإلى أتباعه فإنّ كلّ الديانات خيّرة وحقيقيّة بمفاهيمها، لذلك كانوا يعاملون المسلمين والمسيحيّين واليهود معاملة سواسيّة. وتأثر بشمس التبريزي ومحي الدين ابن عربي وعبد القادر الجيلاني. وبطلب من مريديه وضع أفكاره ومبادئه في كتاب سماه «المثنوي».
كان الرومي يستعمل الموسيقى والشعر والذكر كسبيل للوصول إلى اللَّه، فالموسيقى الروحيّة بالنسبة إليه تساعد المريد على التعرّف إلى اللَّه والتعلّق به، ومن هذا المنطلق تطوّرت فكرة الرقص الدائريّ التي وصلت إلى درجة الطقوس. وأصبحت المولويّة إحدى الطرائق الصوفيّة السنّيّة .اشتهرت بتسامحها مع أهل الذمّة ومع غير المسلمين أيًّا كان معتقدهم وعرقهم. اشتهر في الطريقة المولويّة النغم الموسيقيّ من طريق الناي، وكان يعتبر وسيلة للجذب الإلهيّ، ويعتبر أكثر الآلات الموسيقيّة ارتباطًا بعازفه، ويشبّه أنينه بأنين الإنسان للحنين إلى الرجوع إلى أصله السماويّ في عالم الأزل.
ما تزال الطريقة المولويّة مستمرّة حتّى يومنا هذا في مركزها الرئيس في قونية وفي مناطق أخرى . ويحضر جلسات ذكر المولويّة كلّ من يريد ويلقى الجميع تسامحًا ملحوظًا من المولويّين. يؤمن المولويّون بالتسامح غير المحدود، بتقبّل الآخرين، التفسير والتعقّل الإيجابيّ، الخير، الإحسان والإدراك بواسطة المحبّة. ويقومون بالذكر من طريق رقص دورانيّ مصحوب بالموسيقى وتسمّى السمع وتعتبر رحلة روحيّة تسمو فيها النفس إلى أعماق العقل والحبّ لترقى إلى الكمال. وبالدوران نحو الحقّ، ينمو المريد في الحبّ، فيتخلى عن أنانيّته ليجد الحقيقة فيصل إلى الكمال. ثمّ يعود من هذه الرحلة الروحيّة إلى عالم الوجود بنموّ ونضج بحيث يستطيع أن يحبّ كلّ الخليقة ويكون في خدمتها.
والمريد المولويّ يسمّى «درويش» التي تعني الفقير أو الشخص الذي يقتنع بأقلّ الحاجات المعيشيّة.وعادة، تمارس طقوس السمع في مكان كان يسمّى بالسمعخانة وتعني مكان السمع بالتركيّة. كما تحولت بعض التكاية إلى ما يسمّى بالتكيّة المولويّة بحيث كانت تحتوي على سمعخانة لممارسة الذكر وأماكن لخدمة الدراويش. ويرتدي الدرويش عباءة سوداء تسمّى حركة وتدلّ على القبر، فوق ألبسة بيضاء فضفاضة تدلّ على الموت وقبّعة عالية بنّيّة اللون تسمّى الكلّة.
٣- أبو المغيث الحسين بن منصور الحلّاج شاعر صوفيّ من شعراء الدولة العباسيّة، يعدّ من روّاد أعلام التصوّف في العالم العربيّ والإسلاميّ. اشتهر بقوله: «أنا الحقّ»، والذي اعتبره الكثيرون ادّعاءً بالألوهيّة، بينما فسّره آخرون على أنّه حالة من إبادة الأنا، والسماح للَّه بأن يتكلّم عبره. اكتسب الحلّاج عددًا كبيرًا من الأتباع كخطيب قبل أن يتورّط في صراعات السلطة مع البلاط العبّاسيّ والتي أعدم على أثرها بعد فترة طويلة من الحبس بتهم دينيّة وسياسيّة. رغم أنّ معظم معاصريه الصوفيّين لا يوافقون على أفعال الحلّاج إلّا أنّه أصبح في ما بعد شخصيّة رئيسة في التقليد الصوفيّ.