العدد الرابع - سنة 2022

14 - الإيمان على دروب العصر - العقل في أنواره وظلاله - د. جورج معلولي - العدد 4 سنة 2022

لماذا يشدّد البعض على أنوار العقل ودوره في الحياة المسيحيّة؟ هل لأنّهم شاهدوا بأمّ أعينهم مخاطر تجاهل العقل والتقليل من شأنه؟ ولماذا يشدّد البعض الآخر على ظلال العقل في علاقته مع الإيمان؟ هل لأنّهم لمسوا لمس اليد جفاف الطرائق العقليّة ومخاطر انحرافها في الإيمان؟ يعود الطرفان إلى أمثلة واستشهادات من التقليد ومن الواقع الحاليّ ويبدو أنّ الجسور تنقطع عندما يتقوقع كلّ طرف في موقفه ويتحجّر ويبدو كلّ موقف في تطرّفه الأقصى شيطنةً للمواقف الأخرى. ألا يمكن أن يضع كلّ واحد نفسه مكان الآخر ليفهم من الداخل، في رؤية إيجابيّة كاملة وتعاطف تجسّديّ، ما يقوله الحقّ في كلمات الآخر ومشاعره وتجلّياته؟ يغدو التحليل النقديّ حينها محضونًا بحنان أخويّ يقصي برادة العقل المعزول ونيران الانفعالات الهائجة.

طاقات الإنسان سلّم أو صنم؟

لاحظ بولس الرسول في رسالته الأولى إلى الكورنثيّين أنّ اليهود يسألون آية، أي يطلبون كشفًا عجائبيًّا مسرحيًّا لأفعال اللَّه يدهش الحواسّ ويستحوذ على القلب من دون المرور بأيّ برهان عقليّ ولا قفزة إيمان. ولاحظ أنّ اليونانيّين يطلبون حكمة، أي براهين عقليّة وكلامًا مقنعًا من دون المرور باختبار شخصيّ لحضور اللَّه ولا قفزة إيمان. فيقول الرسول: «نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا لليهود عثرة (أي مقصيًا البراهين المنظورة والمجد العالميّ) ولليونانيّين جهالة (أي في ما يبدو  مناقضًا للمنطق الشائع في الفلسفة اليونانيّة)». أيكون هذا نفيًا لقوّة اللَّه وإنكارًا لحكمته؟ حاشا. يوضح الرسول: «أمّا للمدعوّين ...فبالمسيح قوّة اللَّه وحكمة اللَّه» (1كورنثوس 22- 24). لا ينكر بولس أنّ أمور اللَّه غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم (بالحواسّ والاستنتاج العقليّ والحدس الداخليّ ومعرفة القلب المتجلّي بالنور) «مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمديّة ولاهوته» (رومية 1: 20). ولكنّه يلاحظ آسفًا أنّ البشر عمومًا «حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبيّ» (أي تشوّهت كلّ طاقات الكيان البشريّة ومنها الفكر والقلب) وأبدلوا مجد اللَّه الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى. فالخليقة أيقونة أو مرقاة للإنسان المستنير عقله وقلبه، أمّا لمن أظلم كيانه فالخليقة (ومنها الإنسان) صنم يحجز الحقّ ويحجب الرؤية.

استخدام الأدوات العقليّة عند الآباء القدماء

في عرض مكثّف للإيمان الأرثوذكسيّ (المئة مقالة، التي تتبع مؤلّفًا للقدّيس حول المعرفة وبالأخصّ المعرفة الفلسفيّة)، يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ: «الإله يعجز بيانه ولا يُدرك... بيد أنّ اللَّه لم يدعنا في جهل تامّ. إذ زرع هو نفسه في طبيعتنا جميعًا المعرفة بأنّه موجود، والطبيعة ذاتها بائتلافها وانقيادها تذيع أيضًا عظمة الطبيعة الإلهيّة». هذا ما يسمّيه البعض كتاب الكون (القدّيس أنطونيوس الكبير والقدّيس مكسيموس المعترف). ويكمل: «وأوضح لنا معرفته بالشريعة والأنبياء أوّلًا ثمّ بابنه ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح، ذلك على قدر استطاعتنا» (المقالة الأولى). وفي المقالة الثالثة يورد برهانًا يسمّيه «عقليًّا» على وجود خالق للمخلوقات، يستخدم فيه الاستنتاج المنطقيّ. طبعًا تبقى هذه المعرفة المنطقيّة ناقصة ولا تكتمل إلّا بكشف اللَّه لذاته وهذا واضح في مجمل الكتاب. غير أنّ القدّيس يوحنّا الدمشقيّ لا يأنف، كما يقول القدّيس باسيليوس، من أن يختار كالنحلة ما يلائمها بعد زيارتها كلّ الأزهار ويقطف ما يلائم الإيمان حتّى من المؤلّفات الفلسفيّة. ذلك بأنّ التفكير واستخدام المنطق يفيد أيضًا في رفض ما هو باطل ومزيّف. انطلاقًا من الكشف الإلهيّ استخدم الآباء (كالآباء الكبادوكيّين مثلًا) الأدوات الفكريّة ليوضحوا الإيمان ضدّ المغالطات التي طالته. وفي شرح قصّة الخلق في ستّة أيّام لم يخجل القدّيس باسيليوس والقدّيس غريغوريوس النيصصيّ من استخدام علوم عصرهم لتأمّل أعمال اللَّه وشرح الفصول الأولى من سفر التكوين. ليس هذا اختزالًا للكشف الإلهيّ وحبسه في مقولات العقل والفلسفة، بل هو موقف المؤمن الذي يرى إلى الخليقة بكامل كيانه المتّجه إلى اللَّه.

سيف ذو حدّين:

الفلسفة في الدفاع عن الهدوئيّين

تتضمّن الحياة المسيحيّة نسكًا أي شحذًا لكامل قوى الإنسان ومنها العقل، إذ «نحاول مراقبة عقلنا وتقويمه بيقظة ودقّة» كما يشرح القدّيس غريغوريوس بالاماس في إيضاحه العلاقة بين العقل والقلب الذي هو «مركز الذهن وأوّل عضو جسديّ عاقل» (الدفاع عن الهدوئيّين، الثلاثيّة الأولى،2، 3 ). رغم قساوة بالاماس ضدّ أباطيل الفلاسفة، فإنّ اهتمامه في الدفاع عن الهدوئيّين لا يناقض الفلسفة والإيمان بل يعني القراءة الصحيحة للتقليد واستخدام الفلسفة وأدواتها بشكل صحيح. يقول مثلًا: «إذا قلنا إنّ الفلسفة الطبيعيّة عطيّة من اللَّه نقول الحقّ ولا أحد يعارضنا، ولكنّنا بهذا لا نرفع الاتّهام عن الذين استعملوها بشكل رديء وأحدروها إلى استهداف غاية تضادّ الطبيعة. بل اعلم أنّنا نجعل الحكم عليهم أثقل لأنّهم استعملوا ما أعطاهم اللَّه بصورة لا ترضي اللَّه... لا يحقّ لهم أن يغتاظوا منّا إذا قلنا مع أخي الربّ إنّ حكمة الهلّينيّين شيطانيّة بالقدر الذي تولّد به الخصام وتكاد تحوي كلّ التعاليم الرديئة بالقدر الذي حادت فيه عن غايتها التي هي معرفة اللَّه. ذلك بأنّنا نعترف بأنّها حتّى في هذه الحال سوف تشترك في الصلاح عبر صدى بعيد وغير واضح» (الثلاثيّة الأولى، 1، 19).

حدود الأدوات العقليّة:

أمثلة من القرن العشرين

في القرون الأخيرة، تعاظم التشديد على العقل والمنهجيّة العلميّة منذ عصر التنوير إلى درجة غُيّبت طاقات الإنسان الأخرى  وبُترت الحياة البشريّة من أبعاد كثيرة كانت تلبّيها قربى الإنسان من الأرض ومن السماء. فظهرت تيّارات كثيرة في العلوم الإنسانيّة  كردّ فعل على تضخّم العقل غير المسبوق سعيًا إلى ينابيع انقطعت عنها المجتمعات البشريّة الحديثة. وفي مؤلّفات اللاهوت الأرثوذكسيّ التي ظهرت في أوروبّا في القرن العشرين، استبانت أيضًا ردود الفعل هذه. فكتب فلاديمير لوسكي كثيرًا عن اللاهوت التنزيهيّ وصولًا إلى الظلمة المنيرة حيث يصمت كلّ لسان وكلّ عقل. وكتب القدّيس صفروني (سخاروف)، انطلاقًا من تعليم القديّس سلوان وخبرته الذاتيّة، عن الكشف الإلهيّ الذي من العلى كأساس ضروري لكلّ شرح كلاميّ لاهوتيّ، فالعقل المستقلّ لا يمكنه التكلّم في الإلهيّات (كما يبدو من كلّ التقليد المسيحيّ القديم، وبالأخصّ مثلًا عند القدّيس ذياذوخوس أسقف فوتيكي). فالذهن البشريّ، كما يقول سخاروف، في مواجهته العقيدة، بيحث في سبله الخاصّة ليستدخل ويفهم ما أعطي له في الكشف الإلهيّ ويتّخذ ما يحتويه هذا الكشف، وهنا يبدأ الشرح اللاهوتيّ. إنّ تعليم الكنيسة العقائديّ والنسكيّ ليس تلاصقًا لاختراعات بشريّة بل هو تعبير بلغة البشر الفقيرة عن اللقاء بين الإله الحرّ والإنسان الحر. لكنّ القدّيس صفروني لا يقصي المجهود الفكريّ من دائرة التعبير الإيمانيّ إذا اعترف الفكر البشريّ بمحدوديّته.

النفس اليقظة تعرف أدواتها:

المطران جورج (خضر)

«بالإيمان تعرف قوّة العقل وحدودها» كما يشرح المطران جورج خضر (المحبّة مطرحًا للإيمان، النهار 1999).  «لا تستطيع أن تتحدّث عن الإيمان إلّا كما يتحدّث السبّاح عن البحر... تتناوله... في ما هو عندك فوق العقل أو أعمق. فلكونه رؤية يجعلك داخل ما تراه. وأنّك لا تنتقل إلى ما تراه إلّا بالذهول. والذهول نشوة. والنشوة وعد سكر. والسكر يهيّىء الصحوة، وهذه تستخدم التحليل لكنّها أشمل منه. الصحوة تستعمل من العقل ما تشاء وتحجم عنه إذا أحسّت بدنوّ غيابها. إنّ نباهة النفس تعرف أدواتها ومتى تستعمل هذه وتهمل تلك. إنّها سيّدة أدواتها. وإذا استغنت عنها فهي لصيقة بما تدركه بلا واسطة.» (المقالة ذاتها). «مع العقل المحض أنت في عالم التصوّرات، واذا جاءته خبرة يجرّدها، يحولها إلى تصوّر أو إلى مفهوم ويبني من المفاهيم هرمًا.. هذا كلّه ليس الرؤية، وعلى كونه يقصر عنها ينبغي ألّا نقامر به لأنّه كثيرًا ما يقينا من الانفعال، من دمار الغرائز للكيان. جمال العقل في أنّه ينقذك من البدائيّة، من ملازمتها للعصبيّة التي يتناصر بها أهل الأرحام كما يقول ابن خلدون. القدرة العقليّة الفائقة تقتضي مراسًا شرسًا على الهدوء وهذا ليس وليد العقل، العقل فيه طاقات، ليس فيه فضائل. لذا وجبت تغذيته من خارجه، من الروح أو من القلب كما نقول في الشرق المسيحيّ»، كما يشرح في موضع آخر (العقل والقلب، النهار 1993).

خاتمة: مدّالجسور والتفتيش عن الحقّ

هل نقامر بالعقل ونقصيه عن حياة الإيمان؟ إنّ لفي هذا بترًا للطبيعة البشريّة التي اتّخذها المسيح بتجسّده كاملة (وليس كما قال أبوليناريوس طبيعة بشريّة من دون عقل). هل نؤلّه العقل ونضخّمه على حساب طاقات الكيان البشريّ الأخرى ونبني عليه كلّ الإيمان؟ هذا أيضًا بتر لطبيعة الإنسان وتشويه لحقيقة الإيمان وعناد جافّ في الانقطاع عن المياه الحيّة. العودة الهادئة لمجمل التقليد الأرثوذكسيّ من دون انتقائيّة ولا تطرّف، والانفتاح على ما يتجلّى من أنوار في قلوب الإخوة وعقولهم، هذا ما يحفظنا في استقامة الرأي والتمجيد.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search