من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه
ويحمل صليبه ويتبعني
(مرقس 8: 34)
١- الصليب ونكران الذات
أمام هذه الكلمات الإلهيّة أوّل ما يحضر على بالنا هو صورة حياةٍ حيّةٍ في مسيرةٍ حيّة. فالمخلّص يقول: «من أراد أن يتبعني»، وهكذا قال لتلاميذه: «هلمّوا ورائي»، أي أن يعيشوا ويفكّروا، ويتكلّموا حاملين الصليب فيه ومعه. الحياة في المسيح هي طريقٌ، هي مسيرتنا معه نحو ملكوته.
قال المخلّص: «من أراد أن يتبعني». كلمته هذه هي دعوةٌ وليست أمرًا. إنّه يكشف عن ذاته: «الطريق، والحقّ، والحياة» (يوحنّا 14: 6). فدعوته موجّهةٌ إلى الضمير والفكر والإرادة. فبدون ضميرنا وإرادتنا يكون السير في هذه الطريق لا أهمّيّة له ولا يأتي بثمرٍ، بل يكون مجرّد «سير» اعتياديّ، وتقدّمًا لا هدف له.
يبيّن لنا المخلّص، عبر كلمته وحياته، الطريق قائلًا: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه». «إنّها لكلمة صعبة» نقولها مع بعض تلاميذه (يوحنّا 5:6). أن «تكفر بنفسك» في الوقت الذي فيه الكثيرون منّا لا يحبّون إلّا أنفسهم. لكنّ كلمة المخلّص موجّهة إلى الذين يريدون أن يتبعوه، ويتعمّقوا في فهم وإدراك روح وعمق الدعوة التي دعاهم إليها والتي تمّمها هو بنفسه. فمن المفهوم الإلهيّ أن «أكفر بنفسي» يعني أن أكفر وأرفض «محبّة الذات» والأنانيّة التي تعمل من نفسي «وثنًا» كما يقول القدّيس أندراوس الكريتيّ. وهذا لا يعني التضحية بالذات من أجل الآخرين فحسب، بل وتضحية الآخرين من أجلي، وهذه هي الصورة الجديدة للتضحية الحقيقيّة.
الكفر بالذات، أو نكرانها، يعني الانعتاق من تعظيمها، والتخلّص من الأنانيّة التي هي مرض وجودنا، ومصدر كلّ خطيئة: الطمع، الانغماس في الملذّات، الكسل، الغضب، الظلم، وبخاصة التكبّر، والمجد الباطل الذي يفصلني عن الآخرين، فأحكم على نفسي بالانعزال مجتمعيًّا وروحيًّا. «التكبّر ميزة العقل الفقير» يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.
عندما نعمل على فهم نكران الذات نلاحظ: عندما أرى نفسي لا أهتمّ إلّا بنفسي، عندئذٍ أكون ممتلئًا من ذاتي وليس هناك من مكانٍ بعد للتعمّق في نفسي، وليس من مكانٍ يستوعب أيّ شعاعٍ من نور اللَّه، ومن محبّته للآخرين. مقابل ذلك، عندمــا أنجـح في تفريـغ نفسي أي «أن أنكر نفسي»، كما قال المخلّص، هذا لا يعني فراغًا في ملئه، بل هو وصفٌ واكتمالٌ لا نهاية له من ملء اللَّه وغنى محبّته. هذا هـــو ســر الانعتاق ونكران الذات. من حيث المبدأ: ممتلئ من ذاتي يعني أمتلئ من ملء الجميع. هذا الأمر جعل من القدّيس بولس الرسول يقول فرحًا: «لست أحيا أنا بل المسيح يحيا فيّ» (غلاطية 6: 2).
ولفهم صورة نكران الذات هذه، نرى المخلّص نفسه المثل والقدوة. فهو أوّلًا أنكر ذاته. فيقول لنا القدّيس بولس الرسول: «المسيح يسوع الذي إذ هو في صورة اللَّه ... أخلى ذاته آخذًا صورة عبدٍ صائرًا في شبه البشر... فوضع نفسه وصار يطيع حتّى الموت موت الصليب» (فيليبي ٦: ٧- ٨). ولكي يقبلنا بكلّ ما لنا، بطبيعتنا البشريّة المجرّحة بالخطيئة، ولكي يجعلنا كاملين في النعمة أخذ صورة عبدٍ مخليًا (ناكرًا) ذاته ومتواضعًا. لم يأتِ إلينا بنور ألوهيّته الذي لا يدنى منه، بل اقترب إلينا واتّحد معنا آخذًا صورتنا الوضيعة، لابسًا ثوب تواضعنا. لهذا يقول القدّيس إسحق السوريّ: «التواضع هو ثوب اللَّه»، وتاليًا إن كان هو اللَّه، قد أخلى وأنكر ذاته لكي يقبلنا في هيئة جسدٍ، هذا يعني أنّه هو طريقنا: نخلي ذواتنا ونكفر بأنفسنا لكي نستقبل اللَّه فينا ومعه قريبنا، والعالم.
٢- الصليب الشخصيّ وصليب المسيح
هذه هي الخطوة الأولى التي ينبغي لمن أراد أن يتبع المخلّص القيام بها، وهي بصورة طبيعيّة، تفتح الطريق للآخرين.
يستمرّ المخلّص قائلًا: «أن يحمل صليبه». كلّ واحدٍ عليه أن يحمل صليبه حتّى «كلّ يوم» (لوقا 9: 23). في الوقت ذاته، هذا الكلام يعني أنّ كلّ واحدٍ عليه أن يحمل صليبه الخاص به، وهذا يقوم على دعوةٍ وعطيّة، على ضرورةٍ ومجهودٍ شخصيّ، وفي الوقت ذاته يعرف المسيحيّ أنّ صليبه هذا هو منغرسٌ في صليب المسيح.
عندما نتحدّث، في العادة، عن الصليب نفهم أنّه: المحن والتجارب، أو الألم والمرض، أو حتّى الموت. فإن كانت كلّ تلك الأمور تشكّل صليبي أنا، فعلي حملها بمفردي، وقوّتي، وفي محيطي المحدود، حيث لا أرى بعد الألم والموت شيئًا إلّا النهاية، لذلك، فبدون «النعمة والحقّ» (يوحنّا 1: 17) ونور المسيح وقوّته يدخل حياتي القلق وعدم الارتياح، والإحباط مصحوبًا بتساؤلاتٍ طبيعيّة مثل: ما هو عالم الخالق هذا حيث فعل الخلق يبرّر الوجود، أي الحياة، والخير، فما الغاية من العذاب الأعمى هذا؟ أليس هذا «جهالة» كما يقول القدّيس بولس الرسول (1كورنثوس 1: 18)؟ وما المعنى الإيجابيّ للموت؟
في الوقت الذي يكون فيه صليبي منغرسًا ومتعلّقًا بصليب المسيح، غصنًا في الكرمة، وشعاعًا في الشمس، حينئذٍ يضيء كلّ معناه ومحيطه. الصليب، في المسيح، ليس نقطة النهاية، إنّما هو سبيل منير نحو القيامة. الصليب يحمل في ذاته شمس العدل، المسيح يسوع. فصليبنا هو أيضًا صليب الذي «أخذ عاهاتنا وحمل أوجاعنا» (أشعياء 53: 4). لذلك فأتعابنا، والآمنا، وعذاباتنا، وحتّى موتنا قد انتهى حيث حمله المسيح. وكلّ شيء صار فيه ذبيحةً متلألئةً محبّةً وعطاء.
٣- الصليب والمحبّة الإلهيّة والآخر
وإن أمعنّا أكثر في ذلك، نجد معنى آخر أكثر عمقًا وأكثر شموليّةً للصليب وحمله، وهو أساس: الصليب هو محبّةٌ. إنّه ليس ضرورةً واختبارًا لآلامي من أجل خلاصي فحسب، بل وأكثر من ذلك. فخلاصي ملازم ومتصلٌ بالمسيح يسوع. في صليب المسيح موجودٌ هناك أيضًا قريبي والآخر، الكنيسة والعالم. في الصليب ألتقي بالمسيح والآخرين. المسيح لا يمكنه أن يكون منظورًا بدون هؤلاء. «لأنّه هكذا أحبّ اللَّه العالم حتّى بذل ابنه الوحيد ...» (يوحنّا 3: 16) من أجلهم ومن أجلي أنا. الصليب هو فعل اللَّه الأكثر إعلانًا لمحبّته. وكما أنّ «السماوات تذيع مجد اللَّه» (مزمور 18: 1) هكذا الصليب يذيع محبّة اللَّه ويعلنها.
لكن على صليبنا في المسيح أن يكشف محبّتنا تجاه الآخرين، المحبّة التي تتجلّى في أشكالٍ متعدّدة: التعب، الاهتمام، المساعدة، الصلاة، الصبر، البذل والعطاء بلا حدود. هذه كلّها، وكثيرة مثلها، تحمل ختم الصليب في ذاتها، وجميعها شهادة لهذه الحقيقة: لا يمكنني إلّا أن أكون متضامنًا مع الأقرباء والآخرين طالما أحمل اسم المسيح الذي تألّم من أجلهم أيضًا. المحبّة الحقيقيّة لا يمكنها أن تكون غريبةً عن حيـــاة الآخر، وإلّا لن تكون محبّـــة. كيف يمكنني أن أتحمّل سقوط أحدٍ مــــا ولا أشعر بالمسؤوليّة نحوه، وأنا من طينته؛ والمسيح قدّم نفسه ذبيحةً من أجلي ومن أجله. لهذا يقول القدّيس بولس الرسول: «فمن يضعف ولا أضعف أنا، أو من يشكّك ولا أحترق أنا» (2كورنثوس 29: 11).
الصليب يعني تبادل المحبّة بين المسيح وبيني، وبيني وبين الآخرين؛ إنه تبادلٌ للذات (الأنا)، وهو الحياة التي أفهم فيها المسيح وأدركه وأتعرّف إليه؛ فيه أشعر بأنّني أعيش فرح الآخر وألمه، وحتّى مصيره، وكأنّه أنا، تمامًا كما تشعر الأمّ بنبضات قلب جنينها وكأنّها نبضات قلبها.
الصليب هو إعلان وكشف محبّة الثالوث القدّوس وحياته في قلوبنا. إنّه مكان اللقاء والشركة والاتّحاد مع اللَّه. قبل الآمه، صلّى يسـوع: «أيّها الآب، ليكونوا بأجمعهم واحدًا كما أنّك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا» (يوحنّا 17:21). هـكـذا يحـمـلنا اللَّه فـي محبّته، ونـحـن علينا أن نحمـله والآخـرين في قلـوبنا «لنحبّ بعضنا بعضًا حتّى برأيٍ واحدٍ نعترف بثالوثٍ متماهٍ في الجوهر وغير منفصل» مثلما نردّد في خدمة القدّاس الإلهيّ.
٤- الصليب والخطيئة والنسك
يجب ألّا يغيب عنّا أنّ هذه المحبّة تفرض علينا ألمًا؛ إنّها «صليبٌ». أن تصلّي من أجل الآخرين يعني أن تهبهم دمك. وهنا يمكن القول إنّ المحبّة هي الدم معطي حياة النفس. في المحبّة تنقل إلى الآخر القوّة ذاتها التي لك النابعة من قوّة محبّة صليب المسيح. لهذا فالصليب هو أيضًا التغيّر الخلاصيّ لنا وللذين نحبّهم.
هذا بنوع خاصّ، لأنّ المحبّة تتجلّى وتنمو بتوازٍ مع تراجع الخطيئة. فالصليب ينمو ويكبر بانحسار نكران الذات. بتقلّص محبّة الذات تنمو المحبّة المضحّية، وبذلك أكبر أنا بعطائي للآخرين، وبقدر ما لديّ من إمساكٍ عن الخطايا بقدر ما أملك من المحبّة.
في حمل الصليب تكشف العلاقة الحميمة بين صلب الخطيئة «والذين للمسيح صلبوا أجسادهم مع الآلام والشهوات» (غلاطية 5: 24) وتجلّي المحبّة. وبهذه الطريقة لا يسمح الصليب لأيّة قداسةٍ أو نسكٍ أنانيّ، لأنّ القداسة - الكمال المسيحيّ - تلتقي مع المحبّة كذراعي الصليب حيث الارتقاء والامتداد نحو السماء واحتضان العالم. الصليب هو محبّة العالم الملتقية مع محبّة اللَّه.
في هذا السياق تكمن قوّة الصليب، التي يشهد لها القدّيس بولس الرسول بقوله: «كلمة الصليب... عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة اللَّه» (1كورنثوس 1: 18). الصليب قوّةٌ لأنّه المحبّة، وفي المحبّة تكمن القوّة لأنّ في المحبّة تكمن الحياة. فكما أنّ الحياة تولد من المحبّة هكذا من صليب الربّ تولد الحياة الجديدة ... القيامة.
٥- الصليب بداءة الحياة لا نهايتها
في المسيح، الصليب والموت لا يمثّلان الكلمة الأخيرة في الوجود. فالصليب يحمل في ذاته نور الحياة وقوّتها. «أيّها المسيح الحمل لمّا شاهدتك معلّقًا على الصليب... صرخت باكيةً مولولةً بمرارةٍ: يا ولدي الحلو! ما هذا العجب المشاهد؟ فأجبتها قائلًا: أيّتها الأمّ الطاهرة إنّ هذا سيعرف أنّه حياة العالم» (صليبيّة سحر الأربعاء من الأسبوع الثاني من الصوم الكبير). هكذا مثلما يحمل الليل شعاع نور الصباح: ومثلما تحمل حبّة الحنطة المنغرسة في الأرض الحصاد، «إنّ حبّة الحنطة التي تقع في الأرض إن لم تمت فإنّها تبقى وحدها، وإن ماتت أتت بثمرٍ كثيرٍ» (يوحنّا 12: 24)، وكما أنّ الشمعة تحمل في رأسها النور، هكذا صليب المسيح يحمل في ذاته الحياة، القيامة.
أكثر من ذلك، الصليب يوحّد في ذاته، بواسطة المسيح الذي يوحّد الجميع، سرّ الحياة ومعناها، وكلّ الخليقة. عندما نقرأ الإصحاح الأوّل من سفر التكوين، نرى أنّ أيّام الخلق لم تبدأ «بالصباح»، بل «بالمساء»؛ من المساء إلى الصباح. «وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومٌ واحدٌ»... وكان مساءٌ وكان صباحٌ يومٌ ثانٍ... وهكذا. في كلّ صباحٍ كان يوجد شيء جديد، بدءًا من النور، المياه، الأرض، الزرع، الحيوانات. هاك طريق الخلق: من المساء إلى الصباح؛ من الظلمة إلى النور؛ من اللاوجود إلى الوجود؛ من التعب إلى الثمار، من الصليب إلى القيامة.
وتاليًا يحمل الصليب في ذاته حالة الخليقة وقوّتها؛ حالة بداءتها وولادتها من جديد. يرى القدّيس يوحنّا الإنجيليّ «الحمل المذبوح منذ إنشاء العالم» (رؤيا 23:8)، والذبيحة هي أساسها.
وإن كانت أيّة حياةٍ تحمل في ذاتها الموت، إلّا أنّ الموت في المسيح كذبيحةٍ، يحمل في ذاته الحياة، كما قال في مثل حبّة الحنطة: المسيح، متّخذًا، بدون خطيئةٍ، الموت طوعًا بملء إرادته، يموّت الموت. «ودائسًا الموت بالموت» يعلن حياةً جديدة: القيامة.
٦- خاتمة: «ويتبعني»
والمسيحيّ يسير في طريق الحياة هذه. «ويتبعني» يقول المخلّص في دعوته الثالثة من إنجيله. وما هي الدلالات، والعلامات التي يبيّن بموجبها المسيحيّ تلبيته لتلك الدعوات ليتبع المسيح؟ إنّها مبرهنة في كلّ حياته في الكنيسة. بالمعموديّة نحن أعضاء جسد المسيح المصلوب والقائم، وبالمسيح يجب علينا أن نشعر كيف تصلب كلّ أشكال الخطيئة وتموت: الكبرياء، الشرّ أو الآلام المدمّرة، وكيف تتجدّد النفس وتقوم، وضمائرنا، وأفكارنا، وكلماتنا، وأعمالنا الصالحة البنّاءة بكلّ أنواعها. هذه هي الدلالة الحيّة لفعل المعموديّة العاملة فينا، ولهذا دعي هذا السرّ: القيامة الصغيرة. وكذلك الأمر ذاته مع الأسرار المقدّسة: الختم بنعمة الروح القدس؛ تناول جسد المسيح ودمه كما قال المخلّص: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبديّة وأنــا أقيمه في اليوم الأخير» (يوحنّا 6: 54)؛ وأيضًا التوبة، والكهنــوت، والإكليل... فكلّ هذه يحافظ عليها ويعيشها على ضوء المحبّة. «قد علمنا أنّا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّا نحبّ الإخوة» يقول القدّيس يوحنّا الإنجيليّ (1يوحنّا 3: 14). المحبّة، ينبوع كلّ الحياة المسيحيّة، هي علامة القيامة وعربونها، ثمرة الصليب.
والآن، إذ ننظر الصليب، والمخلّص الذي صلب عليه، هكذا كما هو، بمحبّته الشاملة، يضع نفسه بين يدي الآب، يصلّي ليغفر لصالبيه، يهتمّ بوالدته القدّيسة - العذراء الكلّيّة الطهارة - وتلميذه الحبيب، وعبرهما الكنيسة ذاتها، متقبّلًا توبة اللص وآخذًا إيّاه معه في فردوس محبّته؛ هكذا هو المسيحيّ المدعوّ أيضًا إلى حمل صليبه، الذي يرشم به في كلّ صلاة يقوم بها، وتبارك به أعماله وطريق حياته كختمٍ، يجب عليه أن يظهر محبّة مخلّصه تلك في كلّ مكانٍ وفي كلّ لحظةٍ، وفي كلّ حالٍ أمام أيّ كائن من كان، وهكذا، بإيمانٍ ورجاءٍ يكون مستحقًّا أن يصلّي مرتّلًا: «لصليبك أيّها المسيح نسجد، ولقيامتك المقدّسة نمجّد». آمين.