ترزح بلادنا تحت وطأة الحروب المتنقّلة والأزمات البيئيّة والماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة. تسحق هذه الأزمات الإنسان في هذا المشرق، وترمي الكثيرين بين سندان الفقر ومطرقة الهجرة.
هذه الأزمات المتتالية هي نتيجة بنى اجتماعيّة وسياسيّة يسودها الفساد والمصالح والأنانيّة والاستئثار والاحتكار والظلم.
أمام هذا الواقع الأليم، لا يستطيع الحركيّ أن يزهد بنفسه عن الهاجس الاجتماعيّ، ولا أن يكتفي بتقويّة فرديّة، فالحياة الروحيّة لا تكتمل إلّا ببعدها الاجتماعيّ. فربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع وحّد نفسه مع الفقراء والمحتاجين والمظلومين.
هو قال لأتباعه: «أنتم ملح الأرض». والملح لا يملّح الطعام إلّا إذا كان في داخله. لذلك لا يجوز للمسيحيّ أن ينأى بنفسه عن العالم، وإن كان ملطّخًا بالشرور، لعلمه أنّ الربّ تجسّد فيه، ووحّد نفسه مع البشريّة، وبثّ فيه مفاعيل القيامة.
فورشة تجديد الكون ليست شأنًا مؤجّلًا، إنّما تبدأ الآن وهنا: «ملكوت اللَّه في ما بينكم». والساعة «هي الآن حاضرة».
ونعلم اليوم، أنّ الفساد والظلم والاستئثار ليسوا بمحتّمين. ونعلم من التاريخ أنّ نضالات هنا وثمّة، حقّقت مجتمعات جعلت الإنسان فيها أكثر كرامة، والفرص أكثر تكافؤًا.
من المنطلق الإيمانيّ هذا، تدعو الحركة المؤمنين، إلى التزام قضايا الإنسان والوطن، كلّ واحد حسب مواهبه وقدراته. إمّا بشكل فرديّ لمساعدة كلّ محتاج أو مظلوم وضعه اللَّه في طريقنا، أو بشكل جماعيّ تنظيميّ عبر الفرق واللجان وأسر الخدمات الاجتماعيّة.
وبما أنّ أعمال الرأفة والرحمة لا تكفي لمعالجة القضيّة من جذورها تدعو الحركة أعضاءها، عبر هذا الالتزام إلى تغيير البنى الاجتماعيّة والسياسيّة الجائرة والسعي إلى مجتمع أكثر عدلًا.
هذا السعي لا يكون عبر الاصطفاف وراء خطّة معيّنة، كما تعمل الأحزاب السياسيّة عمومًا، إنّما يُترك لكلّ عضو الاحتكام إلى عقله وإيمانه بمقتضى الإنجيل ومقتضى مواهبه. وذلك لسببين، الأوّل لأنّ العمل بالشأن العامّ يكون حكمًا بالعمل مع مكوّنات المجتمع كافّة. والثاني لأنّ ليس لنظام سياسيّ أو لأيّ بنية اجتماعيّة أيّ صفة مطلقة، ولكلّ نظام حسناته وسيّئاته والتي تتغيّر وتتطوّر مع تطوّر المجتمعات.
هذا السعي لا يمكن إلّا أن يكون بمقتضى رؤية الإنجيل وروحه، فلا مجال للحقد أو تغييب الكرامة الإنسانيّة، التي دونها تُمسّ صورة اللَّه التي خلق الإنسان عليها. وهذا السعي ينبغي أن يكون عبر نضال لاعنفيّ وتشريع عادل والضغط من أجل تطبيقه.
سعينا هذا هو أن نكون سبيلًا من سبل تحنّن اللَّه على شعبه، يحقّق فيه قصده في أن «يحيا الإنسان»، ولتكون «حياته بوفرة» ويوحّد أبناءه ويجمعهم إليه كما تجمع الدجاجة فراخها.
هذه الرؤية ليست جديدة، إنّما هي من أصالة الحركة، وعبّرت عن هذا الفكر وثيقة التزام شؤون الأرض الصادرة عن المؤتمر العام في البلمند العام ١٩٧٠، كذلك كتابات الحركيّين الكبار أمثال المطران جورج (خضر) والأخ كوستي بندلي وغيرهما.
أعطت الحركة في وثيقة شؤون الأرض ثلاثة أمثلة عن الشأن العامّ، كانت راهنة في زمن إصدار الوثيقة، وهي القضيّة الفلسطينيّة والنظام الطائفيّ والتغيير الاجتماعيّ.
رغم أنّ هذه الأمثلة الثلاثة ما تزال راهنة إلى اليوم ويجب الاستمرار في النضال من أجلها، وبخاصّة الطائفيّة التي لم تلغ بعد لا من النفوس ولا من النصوص. إلاّ أنّ لدينا اليوم ميادين عمل إضافيّة، يترك للحركيّ اختيار إحداها مجالاً لعمله حسب قدراته ومواهبه. والأمثلة اليوم كثيرة، نعرض ثلاثة منها: البيئة، والهجرة والفساد.
- البيئة: الإنسان المسيحيّ مسؤول عن البيئة. «وأخَذَ الرَّبُّ الإلهُ آدَمَ ووضَعَهُ في جَنَّةِ عَدنٍ ليَعمَلها ويَحفَظَها » (تكوين ١٥:٢). أمام الواقع البيئيّ السيّئ في بلادنا، من أزمة النفايات والحرائق المتنقّلة وهدر طاقات الأرض وما إلى ذلك، يجب على المسيحيّ الاعتناء بالبيئة والتعاون مع كلّ المهتمّين بها، من أجل الحفاظ عليها والاعتناء بها والتوعية على أهمّيّتها، إلى أن تصل إلى كمالها وتتحرّر من عبوديّة الفساد في اليوم الأخير.
- الهجرة والاغتراب: هذا الواقع المتردّي دفع بالكثيرين إلى الاغتراب قصرًا. هذا يدفعنا إلى المساعدة والتعاضد من أجل تثبيت الناس في أرضهم. واقع الاغتراب يدفع الحركيّ أيضًا إلى مساعدة المغتربين حوله من كلّ جنسيّات الأرض، كما أوصى الآباء قديمًا بخاصّة القدّيس باسيليوس الكبير وإبعاد كلّ ظلم وكلّ كره تجاههم.
- الفساد: يستشري الفساد في شؤون الدولة والوطن، ما جعل الاستقامة استثناء. يجب على الحركيّ السير عكس تيّار الفساد، أوّلًا على الصعيد الشخصيّ، وثانيا بالتعاون مع كلّ المواطنين الصالحين في سبيل أن يسود الحقّ والعدل في كلّ شؤون الدولة.
هذه بضعة أمثلة ينبغي للحركيّ الالتزام بها والتوعية حولها، وهذا من دون شكّ بحاجة إلى مسار نضاليّ طويل، يتطلّب الجهد والمثابرة. وعلى الجماعة الحركيّة احتضان كل عضوٍ فيها يعمل في الشأن العامّ ومرافقته.
وإذ يتربّى الحركيّ على أن يكون ولاؤه للمسيح في كلّ كيانه ويملأه فكر المسيح في كلّ تفاصيل حياته، لا ينسى أنّ هدفه الأوّل والأخير هو هو، الطريق والحقّ والحياة.