العدد الثالث - سنة 2022

04 - خاطرة - بهذه العلامة تنتصر - الأسقف تيودور (الغندور) - العدد 3 سنة 2022

«بهذه العلامة تنتصر». وهكذا كان انتصر قسطنطين، وجعل هذه العلامة أي علامة الصليب الذي رآه في الحلم على راياته، كما جعل نفسه بشكل علنيّ في حماية إله المسيحيّين، قبل أن يعرفه. وذكر انتصاره على قوس نصر مع عبارة: «بدفع من الإله»، أي إله المسيحيّين الذي أظهر له صليبه. عندئذٍ أعلن قرار ميلانو وتوقّفت الاضطهادات ضدّ المسيحيّين السنة 313.  رفض قسطنطين مبدأ الاضطهاد، انطلاقًا من صدق الضمير، فكان أن نال هذه النعمة الخاصّة. هذه العلامة حفرها قسطنطين على النقد الذي سكّه. أعاد إلى المسيحيّين أملاكهم وكنائسهم، وقرّب منه الأساقفة، ثمّ المسيحيّين. كما أنّه منع عقوبة الصلب في أرجاء الأمبراطوريّة. وهكذا بعلامة الصليب، انطلقت الكنيسة وانتشرت في الشرق والغرب، بحسب ما قال ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح لتلاميذه ليلة آلامه: «سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا غلبت العالم» (يوحنّا 16: 33) .

ففي الوقت الذي كان الاضطهاد على أشدّه، خصوصًا مع الأمبراطور ديوكليسيان الذي أمر بتدمير جميع الكنائس وإحراق الكتب المقدّسة. وكذلك بإلقاء رؤساء الكنائس في السجن وبإكراه الأساقفة على تقديم الذبائح للآلهة. وأيضًا بإكراه جميع المسيحيّين على العمل عينه. بصليب ابن اللَّه صار الخلاص للبرايا وبه عادت كلّ الشعوب من الضلال إلى المعرفة. وهكذا تحقّق قول ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح في إشارة إلى صلبه وقيامته وصعوده ومجده: «وأنا إذا ما ارتفعت جذبت إليّ الجميع» (يوحنّا 12: 33). فبالصليب الحيّ العظيم والممجّد والممتلئ خيرات للذين، بالإيمان الحقّ، يسجدون قدّامه، هو قد صار سور المراحم والحافظ بني البشر. والصليب خلّصنا من الموت وأعطانا الحياة الجديدة.

وفي القرن السابع الميلاديّ ألم يتمّ إرجاع عود الصليب الكريم الذي نقله الفرس إلى المدائن سابقًا بعد احتلالهم أورشليم. فمرّ الصليب في القسطنطينيّة، وخرج للقائه كلّ شعب المدينة وفي أيديهم أغصان زيتون ومصابيح متّقدة. ثمّ أعيد إلى أورشليم. فلمّا وصل الخبر، أشعل الناس النار على الجبال، ولبثت هذه العادة حاضرة في جبالنا حتّى اليوم.  يومها لبس الملك هرقل أفخر ثيابه الملوكيّة وحمل الصليب وسار بين الجمع الغفير. ولكن لمــّا وصل إلى جبل الجلجلة، توقّف وما عاد يستطيع مواصلة الطريق. فاقترب منه البطريرك زكريّا ونصحه بأن يخلع لباسه الفاخر ويتشبّه بما كان عليه ربّ المجد وملك الملوك من الاتّضاع حين خرج وهو يحمل صليبه. وبالفعل خلع الملك ثيابه ولبس ثوبًا عاديًّا وسار حافي القدمين مكشوف الرأس. عندئذٍ صعـد الجبل ووضع الصليب في مكانه. في ذاك الحين شابه هرقل سمعان القيروانيّ الذي وضعوا عليه الصليب ليحمله وراء ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. وما حصل يذكّرنا بما حدث يوم الجمعة العظيمة: «كان ينبغي للمسيح أن يتألّم ثمّ يدخل إلى مجده» (لوقا 24: 26). وتلك هي طريقنا نحن المسيحيّين الى اليوم. فكم من الشهداء بصليبك، يا ربّ، تكلّلوا، ولم يكفروا بك في يوم ضيقهم وعذابهم. 

«ألم يقل بولس الرسول: «إنّ كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة اللَّه» (1كورنثوس1: 18). إذًا فالصليب الذي هو موقف ضعف كما يفهمه منطق البشر، يقول عنه الرسول بولس «لأنّه وإن كان قد صلب من ضعف لكنّه حيّ بقوّة اللَّه. فنحن أيضًا ضعفاء فيه لكنّنا سنحيا معه بقوّة اللَّه من جهتكم» (2كورنثوس13: 4).  وإذا تأمّلنا الصليب، فنحن نراه كقوّة فاعلة، حولّت الموت إلى حياة. حولّت اللعنة إلى بركة أبديّة، حولّت العداوة إلى محبّة، والظلام إلى نور أشرق في قلوب الجالسين في الظلمة وظلال الموت.  وهذا في الواقع ما يطالبنا به الإنجيل كلّ يوم: «من لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر على أن يكون لي تلميذًا» (لوقا 14: 27).

بالصليب نواجه ظلمة هذا العالم التي تسيطر على قلوبنا بسبب الخطيئة التي تقتحم حياتنا كلّ ساعة، لأنّه معروف أنّ بقوّة الصليب تموت النفس عن شهواتها، فيتحوّل الحزن والكآبة والندم إلى برّ وابتهاج مع فرح أبديّ لا تستطيع كلّ مباهج العالم أن تمنحه لنا. فبالصليب أيضًا تتحوّل عداوة الناس إلى محبّة، والحزن الذي يضغط به العالم على قلبنا إلى فـرح. لا يوجـد فـي العالم كلّه ما يعادل فرح الصليب.

لكنّ الصليب بالكلام سهل، أمّا الحقيقة فمرّة. الكلام على الصليب لاهوتيًّا لذيذ وسهل ومنطقيّ، ولكن كتجربة، حينما ندخل فيها نجدها مليئة بالألم. حينما نجوز الآلام المتعدّدة الأنواع في أيّامنا هذه ولا يبدو أنّ لها نهاية، حينئذ تبدأ المرارة ورعبة الموت. ولكن، كلّ ضيق نجوزه، وكلّ ظلم أو مرض نجوزه ونرتضيه حتّى إلى حدود الموت فإنّه يحسب لنا في الحال صليبًا وشركة حقيقيّة في صليب المسيح. فالصليب بذلٌ وتضحية. والبذل من أجل الإخوة أو الأحبّاء أو الأصدقاء، أو حتّى الأعداء، هو بذل محبّة، ليس له ثمن، لأنّ ثمنه مردود لنا في حينه فهو محبّة وليس صليبًا لأنّه يغدق فرحًا ومسرّة على النفس. لكن لا غنى لنا عن خبرة الصليب والسعي وراء حمله حسب وصيّة الربّ، لأنّه إن لم يصر الصليب، أي الموت عن العالم، في حياتنا حقيقة مقبولة وطريقًا مشتهى، فسنبقى بعيدين كلّ البعد عن سرّ القيامة والحياة الأبديّة. فالحياة المسيحيّة كلّها هي حركة مستمرّة للانتقال من الحياة حسب الجسد إلى الحياة حسب الروح، وذلك لن يتمّ إلّا عبر الصليب.

ومن هنا وانسجامًا مع ما نمرّ به اليوم من أزمات وما نتخبّط به من صراعات، وما نشهده من أجواء ضغينة وحقد وتشنّجات، ليس لنا من سبيل للخلاص سوى أن نضع الصليب أمامنا، وأن نجعله هدفًا لنا، فيتحوّل الضيق إلى بركة وسلام فيه، وتتحوّل الخطيئة إلى توبة، والعداوات تزول وتحلّ محلّها المصالحات، والصفح، والمحبّة، والسلام. حينئذٍ ننال قوّة الصليب، ونذوق النور والحقّ والحياة عبر الحزن والألم والضيق. العالم اليوم محتاج إلى إنسان المصالحة، إنسان الصليب، الذي يستطيع أن يكرز بالحبّ والصلح والسلام والحياة، بحسب قول الإنجيليّ يوحنّا: «نحن نعلم أنّنا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأنّنا نحبّ الإخوة. من لا يحبّ أخاه يبق في الموت» (1يوحنّا 3: 14). 

الصليب ليس هو مجرّد علامة أو إشارة، بل هو أعمق من ذلك بكثير، فهو يحمل صفة شخصيّة ملازمة للربّ يسوع المسيح. كما أعلن ذلك الملاك لمريم المجدليّة ومريم الأخرى: «فإنّي أعلم أنّكما تطلبان يسوع المصلوب» (متّى28: 5). هلمّ إذًا أيّها الأحبّاء، وكتلاميذ حقيقيّين للربّ يسوع المسيح، نحمل الصليب ونسلك في إثره. ليت إشارة الصليب تكون ختمًا نصنعه بشجاعة بأصابعنا على جبهتنا وعلى كلّ شيء، على الطعام، في خروجنا ودخولنا، قبل نومنا وعند استيقاظنا... لا نخجلنّ البتّة من علامة الصليب، فهو ينبوع الشجاعة والبركات وفيه نحيا خليقة جديدة في المسيح يسوع ربّنا وبهذه العلامة ننتصر.

Loading...

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search