من الأخطاء الشائعة القول إنّ الربّ يسوع صنع العجائب، فالأناجيل الأربعة لا تستخدم كلمة «عجائب» لوصف ما صنع المسيح من أمور تُعتبر في حساب المنطق السطحيّ عجائب بوصفها خوارق للنظام المٌعتَبَر «طبيعيًّا». الإنجيليّون الأربعة، وبخاصّة الرسول يوحنّا، يسمّون هذه الأفعال «آيات»، وسأحاول إعطاء التبرير على ما أقول في ما يلي:
حسب الإنجيل كما رواه القدّيس يوحنّا، دُعي يسوع إلى عرس في «قانا الجليل»، ومكان العُرس مُختَلَف عليه بحيث يقول البعض إنّه في بلدة قانا في جنوب لبنان، فيما يقول غيرهم إنّه كان في كُفركَنَّا في فلسطين. لا مجال هنا للغوص في عِظم مدلولات ومغزى العرس، لكن يهمّنا هنا أن نشير إلى أنّ الرسول يوحنّا وصف تحويل الربّ الماء إلى خمر بالعبارة التالية: «هذه بداءة الآيات التي صنع يسوع في قانا الجليل، فأظهر مجده، فآمن به تلاميذه» (يوحنّا 11 :2). نلاحظ هنا أنّ الرسول يوحنّا لم يقل «هذه بداءة المعجزات» التي صنع يسوع، بل قال «هذه بداءة الآيات»، فما الفرق بين «الآية» و«العجيبة»؟ والذي يتابع سرد إنجيل يوحنّا يرى أنّ كلمة «آية» ستتكرّر لوصف ما صنع يسوع، كقوله في شفاء ابن خادم الملك إنّها «آية ثانية صنعها يسوع» (يوحنّا 54:4).
الآية تدلّ على غيرها، مثل العلامة التي نشاهدها على الطرقات والتي تُشير إلى مكان أبعد منها، مثل العلامات التي تشير إلى المسافة المُتَبَقِّية لبلوغ مقصَد ما. ليست العلامة هي المُهمّة بل ما تشير إليه. هذا واضح في قول الإنجيليّ بأنّ هدف ما فعله يسوع في قانا كان لإظهار مجده لكي يؤمن التلاميذ. الهدف لم يكن لإظهار مجد الربّ، فهو ليس بحاجة إلى فعل ذلك، بل كان لكي يؤمن به التلاميذ، وأعتقد أنّ هذا كان هدف الربّ من وراء كلّ ما فعل من «خوارق»، فهو «يريد أنّ جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون» (1تيموثاوس ٢: ٤). الإبهار لم يكن مُطلقًا هدف يسوع، ما عاذ اللَّه، بل كان هدفه جلب الناس إليه ليُخلّصهم عبر إظهار مجده.
أمّا «العجيبة» بالمفهوم البشريّ العاديّ فهي خرق للمنطق ولناموس سَير الأمور، هدفها الإبهار، كما يفعل من يُطلَق عليهم لقب «سَحَرَة» (جمع ساحر)، الذين يقومون بعمليّات خِفَّة من أجل التأثير في من يرى ما يفعلون. فعمل «السحر» لا هدف له غير ذلك، فيما الآية بالمعنى الإنجيليّ هدفها أبعد من ذلك بكثير كما ذكرنا آنفًا. لهذا، لم يُطلق الإنجيليّون هذه الصفة على أعمال الربّ، فالهدف كان إيمان الناس وخلاصهم. هذا واضح جدًّا في إقامة الربّ لصديقه ألعازر في اليوم الرابع، هو الذي كان بإمكانه فعل ذلك قبل الوصول إلى رابع يوم. فاليهود كانوا يعتقدون أنّ الروح كانت تحوم حول الميت لثلاثة أيّام، ولهذا إقامة الربّ له أثناءها كانت تُعتَبَر فعل سحر من قِبَلِهم. لكنّ إقامته في اليوم الرابع كانت فعل ألوهة لا يقدر عليها إلّا اللَّه، وهذا ما قصد الربّ تبليغه.
هذا يفسر أيضًا تكرار طلب يسوع من الذين كانوا يُشفَون أو يعاينون ما يصنع، كما حدث بعد التجلّي، ألّا يقولوا لأحد شيئًا إلّا بعد قيامته من بين الأموات، لكي يُفهَم كلّ شيء على ضوء القيامة التي كانت الحدث الفصل لإدراك كلّ ما قاله يسوع وفعله على ضوئها بوصفها العمل الخلاصيّ بامتياز، التي بالإيمان بها يتسامى كلّ فهم وكلّ قراءة لكلام الأسفار الإلهيّة.
أمر آخر أودّ الإشارة إليه، وأنا مَدين به لطبيب هو أحد أصدقائي، وهو أنّ اعتبار ما صنع الربّ من آيات (وهذا، بالمناسبة ينسحب على ما يُجريه المخلّص بواسطة القدّيسين) ليس في المنطوق الإلهيّ خرقًا للمنطق ولا هو كسر لنواميس الطبيعة، بل قد نفهمه – ببصيرة إيمان الأطفال الذين دعانا الربّ لكي نكون مثلهم – كأمر «طبيعيّ» بالنسبة إلى اللَّه وإلى طريقة عمله، فالذي «ليس مستطاعًا عند الناس مُستَطاع عند اللَّه» (لوقا 27: 18). بهذا «المنطق» لماذا لا يستطيع ربّ السماء والأرض وخالقها أن يفعل ما يشاء، نحن الذين نُصِرُّ مرارًا على إخضاع كلّ شيء «للمنطق» البشريّ الذي هو من اختراع الناس؟ المشكلة أنّ معظم الناس يُصِرّون على احتواء لامحدوديّة اللَّه عبر محدوديّة عقلهم وإدراكهم. عبر هذه المقاربة «الإلهية» و«الطفوليّة» و«الإيمانيّة» يصبح شفاء إنسان أو القيامة من الموت أو التجلّي على الجبل أمرًا «عاديًّا» عند اللَّه وفي مقاربة الأتقياء والقدّيسين له، لأنّهم يُدركون بالبصيرة الروحيّة وعبر قداستهم أنّ هذه الأمور ما هي إلّا تَجَلّي اللَّه في العالم.
لهذا، الآيات التي أجراها الربّ والمُدَوّنة في الكتاب المقدّس ما هي إلّا إشارات تُعزّز حضوره في حياتنا، وهي نماذج لا نستطيع إحصاء كثرتها كما يشير يـوحنّا في نهايـة الإنجيل الـذي كتبه، كما أنّها مستمرّة في العالم بواسطة أصفيائه لتذكيرنا بعِظم حضوره فينا.