العدد الثالث - سنة 2022

07 - ذكرى - رحل من كان عاشق «الكلمة» إلى الأب نكتاريوس - سيرافيم كيفورك كريكوريان - العدد 3 سنة 2022

يصعب علينا أن نتقبّل فكرة الوداع «الأخير»، عندما يخطر في بالنا أنّنا لن نرى بعد الآن مَن أحببناهم من كلّ قلبنا وعقلنا، وأنّنا سوف نستخدم مصطلحات أخرى عند ذكرهم، مثل «المرحوم»، أو «المغبوط الذكر»، وما إلى هنالك من تعابير تختصّ بالراحلين عنّا إلى الأخدار السماويّة، في حين أنّ خبرة السنين الطويلة ما تزال تنتفض حيّة في ذاكرتنا وتفاصيل حياتنا اليوميّة. ولكن، كما يبدو لنا، أنّنا من يوم ولادتنا في هذه الدنيا، أوّل ما نفعله هو أنّنا نضرب موعدًا مع هذا اليوم، الذي سننتقل فيه من حالة إلى حالة أُخرى.

أذكر حديثنا الأخير، قبل مداهمة عافيتك من مرضك الأخير، عندما قلت لي بمحبّة عبّرت عن إيمانك باللَّه وبقدّيسيه:

«يا أبونا سيرافيم، دخيلك بدنا رفات قدّيسين، ليحمونا من الشرور، ويعلمونا كيف نواجه الحياة وقسوتها. لا تصدّق ما في أحلى وأعذب من السجود للمقدّسات. الخلوة والحديث معهم بترفعك للسما، وبتنسّيك الدنيا وهموما. بشعر بأخوّة القدّيسين وحضورهم لمّا يملّو قلبي بنعمتن. كل مرّة بسجد أمام هالرّفات يلي جبتلنا ياهن بمحبّتك، باخد قوّة وبشعر بطاقة ما في إنسان بالدنيا بيعطيك هيي. تأكّد يا سيرافيم أنّ كل ما قست البشريّة عليك، اللَّه والعدرا والقدّيسين بيحنّو عليك أكتر وأكتر. مهما صار بحياتك لا تخاف، أنت بس خلّي اللَّه بقلبك، وتأكّد أنّ المفاجآت جاي».

 بهذه الكلمات ختمنا آخر حديث لنا قبل مرضك الأخير، الذي قادك إلى الأحضان السماويّة. أبكيتنا بسفرك هذا، وأحزنت قلبنا وروحنا. ولكنّك سافرت، وعيناك تصبوان إلى عرش من عشقتَ بكلّ كيانك، وسكرت به؛ إلى من كان كنز قلبك، الذي بعت كلّ شيء، لكي تحفظه حياةً في داخلك، أمانةً ووديعةً حيّة ومحيّية. ارتميت أمام يسوع وكنيسته، مطيعًا لنواميسه، ومتطهّرًا بمقدّساته. عملت على إكرام القدّيسين، بإكرام رفاتهم، وشعرت بأخوّتهم لبشريّتك، ولكنّهم متألّهو العزم. بأيقونتهم ومثالهم، كما فهمته منهم ومن مثالهم يسوع المسيح، ارتفعت لكي تجاهد في سبيل حفظ المقدّسات نقيّة غير شائبة، على قدر ما كانت تسمح لك طبيعتك البشريّة. لم تكن نفسك تشبع من المحبّة الإلهيّة، ولم يكن يرضيك أن ترى محبّته مجروحة بين البشريّين.

عشقك للَّه تجسّد، أيضًا، في عشقك لجمال بيته. لم يهن عليك أن ترى بيته في فوضى لا تليق بمجده. مثلّث بامتياز من يجيد تكريس مجد المادّة في تمجيد خالقها. أبهرت الجميع باختياراتك، واخترت الأفضل والأجمل من كلّ مكان، وتسابقت مع الكبار في تحسين بيت اللَّه، بالبهاء اللائق به، في كنيسة رعيّتك. لا بأس إن لم تكن اختياراتك تعجب البعض في الكنيسة، فأنت أدركت جيّدًا أهمّيّة إرضاء اللَّه قبل البشر، وعلى ما يبدو، فالذوق الكنسيّ الأصيل، عند البعض المتفذلك، صار شوكة تزعجهم، لأنّ ذوق الصالونات العالميّة بات أقرب إلى أحاسيسهم أكثر من قرب أهمّيّتها لحياتهم في المسيح. وكيف ستنساك العذراء وأنت لم تطفئ قنديل الزيت أمام أجمل أيقونتين لها وضعتهما في وسط كنيستك؟ تباركت يداك المرفوعتان أمامها، تضرّعًا، واللتان نقلتا بركتها إلى رعيّتك، دموعًا من عينيك الشغوفتين للقائها مع ابنها وسائر القدّيسين. شيّدت مزارات لقدّيسين غير معروفين كثيرًا في أنطاكية، ونصّبت أيقوناتهم في وسطها، وجمّلتها بقناديل وزهور، لإكرام مَن لمستَ حقًّا في وجودهم الإخلاص للَّه، ولأنفسهم، وللخليقة جمعاء. كنت تحمل في قلبك همّ تجميل بيت رعيّتك على الأصول الكنسيّة قبل أن تحمل أغراضه من كلّ مكان من الأرض. ومع ذلك، لم تنس يومًا أنّ اللَّه هو مَن بنى بيته، وأمّا أنت فسعيت لأن تكون حقًّا الخادم الأمين، طبعًا على حسب وزنتك وطاقتك. لم يكن يعنيك فقر رعيّتك مادّيًّا، فاللَّه أغناها بسخاء عطاء محبّيه، عبرك، إذ أغدق عليكم بنعمة لن تنسوها إلى الأبد، خبرة وجوده الحيّ في وسط كنيستكم. لا بأس إذا كنت أنت زرعت البهاء في كنيستك وأنّ غيرك مَن سيجمع ثمر أتعابك، وسيستمتع به، لوقت، فأنت لم تبن بيت اللَّه لتنعم به وحدك، بل ليبق عزًّا للكنيسة المجاهدة إلى الأبد. عرقت يداك وجبينك من العمل، واللَّه سيمسح عرقك بمنديله، ويحفظ عطرك في قلوب من قاسموك الهمّ من أبنائك المحبّين لجمال بيت اللَّه؛ واللَّه الذي مجّدته بكلّ هذه الأناقة والترتيب سيحفر اسمك مخلَّدًا في كلّ زاوية من زوايا بيته لن يستطيع من سيخلفك فيه أن يخفيها مهما فعل.

محطّة فاصلة في التوعية الكنيسة في كنيسة أنطاكية ساهمتَ بنفسك في بنائها،  عبر المنشورات وحركة التعريب التي كنت تعمل على إحيائها. لم تكن الوحيد، طبعًا، بل من بين النشطين الفاعلين والمؤثّرين في هذا المجال. كم آلمك أنّك لم تتعلّم اللغة اليونانيّة، حتّى تستلهم منها غنى خبرة الآباء، الذين دوّنوا علومهم وخبراتهم الروحيّة كتابة. لا أخفي أنّ حبّك لإغناء الكلمة الروحيّة باللغة العربيّة كان يربكني، بعض الشيء، وأحيانًا كنت أضحك على غيرتك وشغفك هذا. لن أنسى كم كنت تلاحقني بلجاجة حتّى أنقل لك بعض الكتب إلى اللغة العربيّة، لن أنسى أيضًا كم كنت تؤمن بأنّ المؤمنين عطشى إلى فهم عمق الكلمة الإلهيّة بلغتهم. كم وكم كان النوم يجافيني وأنا مهموك بتعريب الكتب، ولا أخفيك أنّني آنذاك كنت أرى بين سطورها شغفك الرسوليّ لنشر الكلمة باللغة العربيّة. في الحقيقة، أنا مدين لك كثيرًا، لأنّك فتحت لي فرصًا أغنت حياتي بمعرفة الروحيّات. عندما كنت أعرّب نصًّا ما، صعبًا وعميق المعنى، كان عليّ أن أجلس في مكان الكاتب نفسه، حتّى أفهم بالعمق ماذا يريد أن يقول، حتّى أتجنّب الوقوع في ترجمة حرفيّة جامدة لا تلامس المعنى إلّا بظاهره. تركتَ إرثًا كبيرًا وعميقًا، وأوصلتَ الكلمة إلى العطشى إليها، بإصدارات كاملة الأناقة والجودة. حسدَك بعض من تملّكت الغيرة قلبه، وبالغ في انتقادك، لأنّك كنت الأفضل في الأناقة بين المصدرين، ولكن لا بأس، فلكلّ نجاح ثمن، والخطوة إلى الأفضل ما خلت يومًا من العقبات.

أمّا العدوّ الحسود، الذي لم يتردّد في إشعال نار الغيرة الدنيئة في قلوب الضعفاء السلبيّين من بعض المقرّبين منك أو البعيدين عنك، فتارة كان يربكك، بسبب أنانيّةٍ بشريّةٍ يشعلها في نفوس من يرون في نجاحاتك إخفاقاتهم، وكأنّك صرت مرآة ضعف لكثيرين، ومرّة أُخرى كنت تهزمهم، متّكلًا على نعمة من عجن نفسك بعشق الكهنوت والمحبّة الرعائيّة.

لا تحزن، فها هو الجيل الذي صنعته يدا الربّ، بتعبك وسهرك من أجلهم، يكمل طريق جهاده. علّمت كثيرين أنّ نعمة اللَّه تكتمل في عبور الطريق الضيّق، أيضًا في حمل عشق الأبديّة في كلّ الكيان. علّمتهم أن ينظروا إلى يسوع بفخر، وأنّ تكريس حياتهم ليسوع لن يكون خاليًا من المذلّة من العالم، ولكن، أيضًا، من الأكاليل الممجّدة.

ما يهدّئنا في رحيلك أنّك لم تتركنا بدون تعزية. فها رفيق دربك، وطريقك، منذ البدء، يرافقك اليوم أيضًا، في رحلتك إلى الأبديّة، يسوع الأب، والأخ، والصديق، الذي أحببته حبًّا عظيمًا، وفنيت حياتك في خدمة محبّته للبشر. أليس حضن اللَّه أحنّ، يا أبانا، من المجاملات البشريّة المتذبذبة والمتردّدة؟ استفق الآن، وأنت تشخص إلى نور لن ينطفئ، إلى مجد لن يفنى، إلى حياة أبديّة لن تعرف الانقضاء، إلى رؤية الحقّ القائم، الذي نحن صلبناه بضعف بشريّتنا، ولكن هو أقامنا بعزّة ألوهيّته.

شكرًا لك على كلّ خير فعلته من أجلنا جميعًا، ولكن، أيضًا سامحنا إذا ضايقناك، ولا تنس أن تذكرنا أمام العرش الإلهيّ.

أبونا نكتاريوس، أنت سلكت بحقّ الصراط المستقيم، بنعمة مَن عشقتَ، وأخلصت الودّ ليسوع، وصرت من بين المرضيّ عليهم. رجاؤنا، الذي نصلّي بحرارة لأجله، أنّ اللَّه سينظر إلى أتعابك وجهاداتك، وسيغفر لك جميع زلاّتك، وسيتجاوز عن كلّ ضعفاتك، وسيريح نفسك بين القدّيسين، إلى الأبد؛ وأنّك أنت نفسك ستصير، اليوم، بركة للعالم بوجودك بين القدّيسين. أبونا نكتاريوس صلِّ لأجلنا أمام الباري الذي تنازل لكي يخلّصنا، حتّى نسير على خطاك ونكمل المشوار، الذي سرناه طويلاً معًا، نحو وجه يسوع الحبيب.

أخوك ورفيق دربك، الذي لن ينساك.

Loading...
 

 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search