العدد الثالث - سنة 2022

08 - تحقيق - متحف مدينة أنطاكية - د. باسيل خوري - العدد 3 سنة 2022

أنطاكية مدينة هلّينيّة تقع على ضفّة نهر العاصي، شمال مدينة اللاذقيّة وغرب مدينة حلب. أسّسها أحد قادة الإسكندر الكبير سلوقس الأوّل في العام 300 قبل الميلاد، وسمّاها أنطاكية نسبة إلى أبيه أنطيوخاس. وكانت مركزًا سياسيًّا وثقافيًّا مهمًّا في الشرق الهلّينيّ ومدينة عظمى في العصر الرومانيّ. فيها سمّي التلاميذ أوّلًا مسيحيّين، وشهدت حضارات كثيرة وتقلّبت عليها شعوب عديدة. ولم تزل حتّى اليوم مركز اهتمام الباحثين العالميّين. أنطاكية مركز خمس بطريركيّات اثنتين للأرثوذكس وثلاث للكاثوليك. وفي العام 1939 انتُزعت من الدولة السوريّة وأُلحقت بتركيا بمساندة سلطة الانتداب الفرنسيّ(١).

في هذه العجالة سيتمحور حديثنا حول متحف أنطاكية عبر وثائق موجودة في المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى، ووثائق أخرى تحتفظ بها عائلتي لكون جدّي، الدكتور باسيل خوري، كان طبيب بلديّة أنطاكية ونائبًا في دولة هتاي القصيرة وحافظًا للمتحف.

يندرج إنشاء متحف أنطاكية ضمن سياسة الانتداب الفرنسيّ بمؤازرة بعض المثقّفين اللبنانيّين والسوريّين. هدفت هذه السياسة إلى تنشيط أعمال التنقيب عن الآثار والحفاظ عليها وإبرازها للسيّاح، وإلى سنّ القوانين اللازمة لحمايتها. بدأ اهتمام الغرب بالآثار الشرقيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى عندما كانوا يحفرون الخنادق في منطقة المضائق أي البوسفور والدردانيل في تركيا. وبعمليّة حفر هذه الخنادق كانوا يستخرجون من جوف الأرض الآثار القديمة. كما أنّ القصف والدمار الذي لحق بالمدن في تلك المرحلة ساعد على استخراج التحف والكشف عنها.

الملك فيصل، الانتداب الفرنسيّ

في أثناء أحداث الشرق والثورة العربيّة، نختصر الحديث عن الملك فيصل وعلاقته بسوريا والإنكليز. كان الملك فيصل بن حسين الهاشميّ ثالث أبناء شريف مكّة، وأوّل ملوك المملكة العراقيّة (1921-1933)، وملك سوريا لبضعة أشهر فقط. تواصل مع الإنكليز وثوّار العرب الذين كانوا يناهضون سياسة جمعيّة الاتّحاد والترقيّ التي استولت على الحكم في السلطنة العثمانيّة، وأطاحت بالسلطان عبد الحميد الثاني.

باشرت هذه الجمعيّة بسياسة تتريك العناصر غير التركيّة في السلطنة وشدّدت سيطرة السلطة المركزيّة على كلّ الولايات العثمانيّة. وبهذا عملت على القضاء على كلّ الحركات الاستقلاليّة. وفي أشدّ معارك الحرب العالميّة، بينما كان مدحت وأنور وطلعت(٢) يديرون السلطنة بمفردهم، استطاع الملك فيصل وجيشه الصغير الدخول إلى فلسطين وسوريا بمساعدة الإنكليز. ألّف في دمشق حكومة مدنيّة وأسّس في 8 حزيران 1919 مجمع اللغة العربيّة الذي سيؤدّي في ما بعد دورًا بارزًا في مضمار الثقافة والآثار في سوريا. فما قصّة هذا المجمع؟

مجمع اللغة العربيّة

يُعرف أيضًا بالأكاديميّة العربيّة السوريّة.  في 8 حزيران 1919 طلب الملك فيصل من محمد كرد علي(٣)، أحد أهمّ وجوه النهضة العربيّة وأبرز مثقّفي دمشق، تأسيس مجمع اللغة العربيّة. وهو الأوّل من نوعه في البلاد العربيّة. كان هدف الملك فيصل أن يأخذ هذا المجمع مكان شعبة ديوان المعارف، ووضع له أهدافًا عدّة منها تنظيم الدراسات العليا، تأسيس المكتبات العامّة والمتاحف. أعضاء هذا المجمع كانوا: - محمّد كردعلي (رئيسًا) – أمين السودا- أنيس سلّوم- سعيد الكرمي- متري القندلفت- عيسى إسكندر المعلوف- عبد القادر المغربي- عزّالدين علم الدين وظاهر غزايري.

في البدء استقرّ المجمع في مقرّ الحكومة العربيّة ثمّ انتقل إلى المدرسة العدليّة التي تقع في منطقة الصالحيّة في دمشق، والتي أنشئت في العصر المملوكي العام 1215. بقي المجمع يقوم بدوره في مجال الثقافة حتّى بعد انهزام الملك فيصل في معركة ميسلون في 24 تمّوز 1920.

في هذ المقرّ جُمعت التحف التي اكتشفت خلال حفريّات تنقيب وطنيّة وأجنبيّة. فمدينة دمشق وضواحيها غنيّة بالآثار التي تعود إلى حقب تاريخيّة متعدّدة، والاكتشافات ما تزال تدهش الباحثين، والتنقيب لا يتوقّف، وكلّما فُتحت ورشة بناء يضطرّ المهندسون إلى الاستعانة بمديريّة الآثار للتنقيب. ولكثرة الاكتشافات وضيق المساحة المخصّصة لها قرّر محمّد كردعلي الاستعانة بخبراء فرنسيّين. كان المعهد الفرنسيّ للغة العربيّة (IFEAD) ومركزه قصر العظم مقرًّا لعدد من الباحثين الفرنسيّين والمستشرقين وعلماء الآثار. ومن بين المقيمين في هذا المعهد ميشال إيكوشار المهندس المعماريّ والمدنيّ Urbaniste، وكان في الوقت عينه ملمًّا بالآثار. وقد أوكل إليه هنري سيريغ، مدير قسم الآثار لدى الانتداب الفرنسيّ، ترميم بعض المباني الأثريّة. كما وضع مخطّطًا مدنيًّا لبيروت ودمشق.

وبعد موافقة إدارة الانتداب الفرنسيّ والحكومة السوريّة عمل على إنشاء المتحف الوطنيّ في دمشق، على ضفّة نهر بردى، بين جامعة دمشق والتكيّة السليمانيّة. وضع ميشال إيكوشار الخرائط واستعان بعمّال سوريّين للمباشرة بالعمل. وفي مراحل البناء تصدّع المتحف وانهار قسم منه. علّل إيكوشار هذه الحادثة بسبب وفرة الأتربة قرب نهر بردى وقلّة خبرة المتعهّدين.

أمّا بالنسبة إلى متحف أنطاكية فالرواية مختلفة تمامًا، فالمدينة ما تزال حتّى اليوم تحت مجهر العلماء والباحثين، وتُعقد فيها المؤتمرات والندوات العلميّة في مجال الآثار.

متحف أنطاكية وأوّل عمليّات

التنقيب

بين العامين 1924 و1925، بدأ عالما الآثار هنري سيريغ وبول بودريزت التنقيب في شمال سورية وبخاصّة في ضواحي مدينتي أنطاكية وإسكندرون. اكتشفا كمًّا هائلًا من الكنوز والتحف النادرة. وضعا معظم هذه الاكتشافات عند بعض أفراد العائلات الميسورة، ومن بينهم جدّي الدكتور باسيل خوري، الذي كان يعالج عمّال ورش التنقيب ومن بينهم عمّال تابعون للجنة التنقيب في أنطاكيا وضواحيها
Committee for excavation of Antioch and its vicinity.

في العام 1928 اقترح شارلز روفوس موري، رئيس دائرة الفنّ والآثار في جامعة برينستون، في الولايات المتّحدة الأميركيّة، البدء بالتنقيب في مدينة أنطاكية شمال سوريا قرب الحدود التركيّة. وكتب موري في حينه أنّ حلم أن تتابع دائرة الآثار في برينستون(٤) العمل الذي قام به عالم الآثار الأميركيّ هاورد كروسبي باتلر في سورية(٥).

وتحقّق الحلم عندما طلبت دائرة الآثار الفرنسيّة من جامعة برينستون المشاركة في حملة التنقيب في أنطاكية. وتشكّلت اللجنة المذكورة أعلاه من متحف ورسستر للفنون، ومتحف بالتيمور للفنون ومتاحف فرنسا الوطنيّة، وتكفّلت برينستون بإدراة التنقيب ونشر الأبحاث والنتائج. توجّهت إلى أنطاكية أربع حملات فرنسيّة أميركيّة اكتشفت كنزًا ضخمًا من الآثار، فتوجّب إنشاء متحف لحفظها. في المعهد الفرنسيّ للشرق الأدنى(٦) ولدى عائلتي رسائل من المفوّض الساميّ لدى اللواء ومجمع اللغة العربيّة من جهة، والمفوّض السامي وحكومة الانتداب تشدّد كلّها على ضرورة إقامة هذا المتحف.

كان مجمع اللغة العربيّة يعتبر أنّ كثرة المتاحف تشتّت انتباه الزوّار والسيّاح، لذا يجب حصرها في ثلاث مدن كانت مراكز ثلاث دول أنشأها الانتداب الفرنسيّ، وهي جبل الدروز، دمشق أو ما كان يعرف بدولة سوريا ودولة العلويّين. وهذه المدن كانت السويداء ودمشق وحلب. بينما سلطات الانتداب فضّلت أن تبقى المكتشفات في منطقة التنقيب، إذا إنّها تعبّر عن المنطقة وتبرز الحضارت التي تعاقبت عليها. إضافة إلى أمور ماليّة فالمجمع فضّل عدم تحميل حكومة دمشق مصاريف بناء المتاحف، فتكفّلت إدارة الانتداب بالمصاريف عبر الإدارة الذاتيّة للواء الإسكندرون.

انتتهى الجدال ببناء المتحف على الضفّة الشرقيّة من نهر العاصي، على نفقة الإدارة المحلّيّة للانتداب الفرنسيّ، على أن يكون تابعًا لمتحف حلب. عُيّن الباحث الفرنسيّ بروست حافظًا للمتحف وكُلّف جدّي بمعاونته.

صمّم المتحف ميشال إيكوشار عندما كانت أنطاكية ما تزال جزءًا من سورية. بدأ البناء في العام 1934 ولم ينته إلّا في العام 1939.  لكن تصّدع المتحف وانهار قسم منه. فزاره إيكوشار ورفع تقريرًا إلى سلطات الانتداب سرد فيه الأضرار التي وقعت وتقديره لسبب الانهيار. وقبل الافتتاح وضعت بعض الموجودات عند أعيان المدينة وفي حديقة المتحف، إلى أن افتتح بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية. وأضيف مبنى ثانٍ في مطلع السبعينات. وفي العام 2000 ارتفع عدد القاعات من خمس إلى ثمانية. يعتبر هذا المتحف من أهمّ المتاحف في العالم من حيث عدد الفسيفساء الموجودة فيه والتي تعود إلى حقب تاريخيّة عدّة. وكان يُعرف باسم Musée archéologique d’Antioche

مع مرور الزمن بدأ المتحف يضيق بالمكتشفات وأصبح من الضروريّ بناء متحف أكبر يحتوي على الكنوز الأثريّة وعلى الآثار التي يمكن اكتشافها في المستقبل. أعطي لهذا المشروع الأرض المناسبة قرب مغارة القدّيس بطرس الرسول. واليوم يتألّف المتحف الجديد من طبقات عدّة، والمسؤولة عنه أستاذة في قسم الآثار في جامعة هتاي. أمّا المتحف القديم الذي أنشأته سلطات الانتداب فسوف يكون متحفًا إتنوغرافيًّا.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search