العدد الثالث - سنة 2022

09 - وجوه أرثوذكسيّة - المتروبوليت إيليّا (كرم) - الأب متري (الجرداق) - العدد 3 سنة 2022

 نشأته وسيرة حياته

ولد المتروبوليت إيليّا (كرم) في الثامن من شهر آذار السنة 1903، في بلدة (قصبة) بحمدون، متصرّفيّة جبل لبنان وأعطاه أبواه (ناصيف جرجس كرم ومريم طانيوس مراد) اسم سليم، وكانا مسيحيّين تقيّين.

تلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة بحمدون (باللغتين العربيّة والفرنسيّة). عندما أصبح في الخامسة عشرة من عمره، استدعاه البطريرك غريغوريوس الرابع (حدّاد) إلى دمشق، بتاريخ  12 آذار 1918. عندما وصل إلى دمشق، اهتمّ به غبطة البطريرك وأوكل إلى مدرّس خاص تعليمه مبادىء وأصول اللاهوت والعلوم الدينيّة. التحق «سليم» بالمدرسة الآسيّة في دمشق السنة 1919 وبقي يدرس فيها سنتين بتشجيع من غبطته.

سامه البطريرك «إيبوذياكون» ولكي يكتسب المزيد من العلوم الدينيّة واللاهوتيّة أرسله السنة 1921 إلى مدرسة اللاهوت في دير سيّدة البلمند البطريركيّ، وتخرّج في الخامس من آب 1923. رسمه البطريرك غريغوريوس شمّاسًا إنجيليًّا في الكاتدرائيّة المريميّة بدمشق يوم الخامس عشر من آب 1923.

كان المطران جراسيموس (مسرّة) مترئّسًا على كرسيّ الكهنوت في أبرشيّة بيروت، فطلب إلى غبطة البطريرك أن يرسل إليه الشمّاس «إيليّا» ليلتحق بأبرشيّته ويكون مساعدًا له.

وصل إلى بيروت في كانون الأوّل العام 1923. وبعد نحو ثلاث سنوات على وجوده في أبرشيّة بيروت رسمه المطران جراسيموس «أرشيدياكون»، أي أوّل الشمامسة، في 6 آب 1926. وبعد أربع سنوات رُسم  كاهنًا وأرشمندريتيًّا السنة 1930.

كانت كرسي أبرشيّة جبل لبنان شاغرة بسبب وفاة المطران بولس (أبو عضل) في السابع من تشرين الثاني 1929، فعُيّن المطران ثيوذوسيوس (أبو رجيلي) مطران أبرشيّة صيدا وصور، مندوبًا بطريركيًّا على الأبرشيّة.

خلف البطريرك ألكسندروس الثالث (طحان) البطريرك غريغوريوس الرابع بسبب انتقال الأخير إلى الأخدار السماويّة. التأم المجمع  في العشرين من شهر كانون الأوّل 1935، وانتخب الأرشمندريت «إيليّا (كرم)» مطرانًا على أبرشيّة جبل لبنان بقي 
فيها لغاية العام 1969، من بين ثلاثة مرشّحين 
لهذا الكرسيّ «الأسقف فوتيوس (خوري)، والأرشمندريت إيليّا (كرم)، والأرشمندريت بولس (الخوري)»، وجرت سيامته الأسقفيّة صباح الأحد في الحادي والثلاثين من كانون الأوّل السنة 1934 . 

يقول الأسقف إلياس (نجم) (مساعد المتروبوليت إيليّا)، ردًّا على سؤال: ما حقيقة الأخبار المتداولة عن أنّ صلاة المطران كانت تشفي المرضى؟  فأجاب: «لقد سيم الأرشمندريت إيليّا مطرانا إثر صلاته لزوجة المندوب السامي الفرنسيّ، وشفيـت فأراد الفـرنسيّون ردّ الجميل له. وعندما حـان موعد انتخاب مطران لأبرشيّة جبل لبنان، أصرّوا على أن يكون هو المطران الجديد، وهكذا حصل». 

قبل انتقال المتروبوليت إيليّا (كرم)، تعرّض لمشاكل صحّيّة أجبرته على الانقطاع عن الخدمة. وبتاريخ الحادي عشر من شهر نيسان 1969، انتقل إلى جوار ربّه تاركًا الأبرشيّة تحت رعاية الأسقف إلياس (نجم)، الذي انتخبه المجمع المقدّس سابقًا أسقفًا معاونًا للمطران إيليّا (كرم) في إدارة شؤون الأبرشيّة، وبقي لحين انتخاب المطران جورج (خضر) مطرانًا عليها سنة 1970 .

حياته الأسقفيّة

كان المطران إيليّا (كرم) تقيًّا ورعّا يعيش حياة مسيحيّة حقيقيّة، مواظبًا على الصلاة والتضرّع لوالدة الإله «السميعة المجيبة غير الخازية ...» لكلّ طالب منها بإيمان. كما أنّه كان يقضي الأيّام الطوال ساجدًا أمام أيقونتها مصلّيًا بحرارة لتستجيب لطلبات الشعب الذي يلجأ إليها دائمًا في زمن المحن والشدائد. مرّ لبنان بصعوبات وأزمات كثيرة، منها الحرب العالميّة الأولى وما رافقها من جوع وأمراض وأوبئة، والحرب العالميّة الثانية وما جرّت من ويلات على الشعب اللبنانيّ. فكان خلال الحرب الأولى يرى الناس المعذّبين وهم على أطراف الطرق فاقدي الحياة، أو يجرّون أنفسهم بكلّ صعوبة بسبب فقدان الموادّ الغذائيّة والطعام وبخاصّة القمح. فكانت صلاته الدائمة لوالدة الإله أن تتشفّع فيهم كي تخفّف من مآسيهم وعذاباتهم.

العلاقة مع السوفيات

عند اندلاع الحرب العالميّة الثانية السنة 1939، وعلى أثر حصار هتلر للمدن الروسيّة، وجّه بطريرك روسيا «ألكسي الأوّل» نداء إلى العالم بضرورة إنقاذ روسيا من براثن النازيّة. بلغ النداء لبنان، فتأثّر به المتروبوليت، خصوصًا وأنّ علاقة مميّزة كانت تربطه بروسيا، عبر اهتمامه بعائلات روسيّة من سلالة القيصر، كانت تقطن بيروت، وكان يشملها بعاطفته ورعايته، ويقدّم لها المأوى والعمل، كما ساعد على بناء بيوت عدّة لهذه العائلات على أرض في الحدث تابعة لكرسيّه. 

بلغه النداء مطلع السنة 1942، فحزن ولجأ إلى أمّه السيّدة العذراء في مغارة دير سيّدة النوريّة في حامات، شمال لبنان، حيث اعتكف ثلاثة أيّام، أمضاها في الصلاة والصوم والتضرّع أمام أيقونتها لتجنّب روسيا كأس الموت والسقوط. في اليوم الثالث، استجابت السيّدة العذراء لتضرّعاته وطلباته، فظهرت أمامه وأودعته رسالة من شأنها تجنيب روسيا المخاطر المحدقة، في حال الأخذ بها.

مفاد الرسالة «أنّه على النظام الروسيّ الشيوعيّ، الذي كان على رأسه ستالين، أن يعيد جزءًا من الكنائس والأديرة إلى البطريركيّة الروسيّة ويفتح أبوابها للمصلّين، وأن يحرّر الإكليروس السجناء، وأن يسمح للإكليروس الذين يحاربون مع الجنود على الجبهات بممارسة الشعائر الدينيّة».

على الفور، استعان المتروبوليت إيليّا بإحدى السيّدات الروسيّات، طالبًا منها ترجمة الرسالة إلى الروسيّة، ثمّ أرسلها إلى ستالين وإلى القائمين على البطريركيّة الروسيّة آنذاك بواسطة الصليب الأحمر. وشاع أنّ ستالين عندما وصلت إليه الرسالة تأثّر بها كثيرًا وأبلغها إلى السلطات العسكريّة والكنسيّة، طالبًا من الجنرال «شباشنكوف» الذي كان «رجلًا مؤمنًا» تطبيقها بحذافيرها، لا سيّما ضرورة التطواف بأيقونة «سيّدة قازان» على كلّ الجبهات من أجل تبريكها. وبفضل هذه الرسالة السماويّة، اندحر الألمان على أبواب المدن الروسيّة ولم يستطيعوا اختراق جبهاتها، عندها ذاع صيت المطران إيليّا (كرم) في أرجاء البلاد وسمّي إثر ذلك «منقذ روسيا»(٢)

توطّدت العلاقة بين المطران إيليّا (كرم) وكلّ من ستالين ومطران موسكو، وبعدها سائر مطارنة أبرشيّات الروسيا. فاستطاع أن يغيّر أهداف ستالين تجاه الكنيسة ورجالاتها في روسيّا. ففي السنة 1947، زار المتروبوليت إيليّا (كرم) روسيا بدعوة من ستالين والبطريرك ألكسي الأوّل، حيث استقبل استقبال الملوك، وتوطّدت عرى الصداقة مع المراجع الروسيّة المختلفة(٣).

توّج علاقته بروسيا عبر التقارب الذي حصل مع البطريرك ألكسي الأوّل، خصوصًا بعدما مُنحا معًا أعلى وسام من الكنيسة الروسيّة، وهو وسام «القدّيس فلاديمير» من الدرجة الأولى، الذي منح في الوقت عينه إلى الأمبراطور الأثيوبيّ «هيلاسيلاسي الأوّل» السنة 1958(٤).

ونظرًا إلى هذه العلاقة الوطيدة التي نشأت بين المتروبوليت إيليّا (كرم) والسوفيات، «تمنّى إعادة كرسيّ بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس إلى وسط روسيا (وكان هذا الكرسيّ موجودًا قديمًا). لبّت السلطات طلبه ومنحته أحد الأديرة التاريخيّة في وسط موسكو»(٥).

زار البطريرك ألكسندرس مع وفد مرافق له موسكو، ولدى وصول الوفد استقبلهم البطريرك الروسيّ ألكسي الأوّل والمؤمنون استقبالًا حارًّا، وهتفوا بحياة المطران إيليّا (كرم). وبما أنّ الهدايا بقيت في دمشق، وعددها أربعون حقيبة، أهدى المطران إيليّا (كرم) عصاه الأسقفيّة إلى البطريرك ذاكرًا أنّها من صنع الأراضي المقدّسة، فما كان من البطريرك الروسيّ إلّا أن أهداه عصاه المرصّعة بحبّة ماس كبيرة.

على أثر هذا الاستقبال، يقال إنّ البطريرك ألكسندرس غضب غضبًا شديدًا للحفاوة الشديدة التي لقيها المتروبوليت إيليّا، التي فاقت الحفاوة به. فما كان من المطران إيليّا إلّا أن أفهم البطريرك، أنّ عمله يندرج ضمن حلمه الكبير، وهو تزويد الكنائس الأرثوذكسيّة بالأيقونات الروسيّة النادرة بغية وضعها في متحف. وكانت وصيّته في هذا المجال ضرورة تشييد متحف خاصّ لعرض المجموعات النادرة من الأيقونات التي يتلقّاها كهدايا من روسيا. لكنّه توفّي قبل أن يحقّق حلمه.

Loading...

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search