العدد الثالث - سنة 2022

10 - خاطرة - لِمَ وجب على بطرس الانتظار؟ - الأب سمعان (أبو حيدر) - العدد 3 سنة 2022

يشكّل تأكيد يوحنّا الإنجيليّ المُبكر على أطروحة: «الكلمةُ صارَ جسدًا»، مفتاح تفسير أقسام إنجيله المتنوّعة وفهمها. تؤكّد هذه الآية الواحدة، أنَّ كلّ ما يتمّ التعبير عنه في الكلمة الإلهيّ يتّخذ جسدًا، شكلًا بشريًّا. في القصص التي يسردها يوحنّا، نتأمّل في الحكمة الإلهيّة متنازلة إلى إدراك بشريّ. وفي المحبّة اللامتناهية التي تتّخذ أشكالًا من الصداقة الشخصيّة، والمودّة، والتّحبُّب العائليّ.

كلّ ما في كلمة اللَّه يصير جسدًا. يتشكّل لطف اللَّه اللامتناهي عبر توفير الخمرة في وليمة العرس، وعطيّة الخبز لحشد من الآلاف. على غرار وداعة اتّخاذ الكلمة جسدًا في بطن العذراء، يتمّ تقديم الخمر السرّيّ والخبز المُحَيِّر في تجربة البشر ويحوّلها. في كلّ حال، يصير الكلمة جسدًا، ويسكن بين الناس.

«هكذا أحبَّ اللَّه العالم»، يتّخذ طرح يوحنّا هذا، شكل «رضيع» تُحبّه أمّه ويحبّها هو بدوره. يتربّى على المحبّة جيّدًا. لاحقًا، خلال حياته بيننا، أدرك رجل آخر صداقة المسيح لدرجة أنّه أشار إلى نفسه بشكل عامّ بـ«التلميذ الذي كان يسوع يحبّه».

انصراف كلمة اللَّه المُحبّ لأمّه ومودّته لصديقه، وكلاهما تعبيران عن التجسّد، اجتمعا معًا عندما كان مُعلّقًا على الصليب، «رأى يسوع أُمَّهُ والتلميذَ الذي كان يُحِبُّه واقفًا». كانت الأمّ على وشك أن تفقد ابنها والتلميذ صديقه المفضّل. في حبّه لكليهما، كلّ منهما بطريقة مميّزة، وهب يسوع، هذه المرأة وهذا الشابّ الفتيّ، أحدهما للآخر كهديّة وداعيّة منه: «سيدتي، هوذا ابنك... هوذا أمّك». حبّ يسوع لمريم وليوحنّا، في لحظة انفطار قلبيهما المشترك، ربطهما أحدهما بالآخر عبر المحبّة التي كانت لكلّ منهما تجاهه. هنا على الجلجلة، وبتركيز كبير، «الكلمة صار جسدًا». اتّخذ حبّ اللَّه اللامتناهي المشاعر الإنسانيّة للعائلة الجديدة عندما «أخذها التلميذُ إلى خاصَّتِه».

يُعَدّ التركيز الصريح والقويّ على «صداقات يسوع» إحدى السّمات الخاصّة بإنجيل يوحنّا. دعا يوحنّا المعمدان نفسه «صديق العريس» (٣: ٢٩). وكلّم يسوع تلاميذه عن «صديقنا لعازر» (١١: ١١). وقال للتلاميذ أنفسهم، «لا أسمّيكم عبيدًا بعد، ولكنّي قد سمّيتكم أصدقاء» (١٥: ١٥). ووصف هؤلاء الأصدقاء بأنّهم «خاصّته»، مُعلنًا أنّ الراعي الصالح «يَدعو خِرَافَهُ الخاصَّة بأسماء ويخرجُها… ومتى أخرج خِرافهُ الخاصَّة يذهب أمامها» (١٠: ٣- ٤). وأيضًا، «أعرفُ خاصَّتي وخاصَّتي تَعرفُني» (١٠: ١٤). في الواقع، هو «أحبَّ خاصَّتهُ الّذين في العالم أحبَّهُم إلى المنتهى» (١٣: ١). تتحقّق هذه النهاية «الى المنتهى» في محبّة المسيح لهؤلاء الأصدقاء: «أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يَبذل نفسه عن الخراف» (١٠: ١١).

لدى يوحنّا، تتشكّل محبّة المسيحيّين بعضهم لبعض، على المحبّة التي خبِرها كلّ منهم في المسيح. وهكذا، في حين أنّ التفويض في الأناجيل الإزائيّة هو أن «تُحب قريبك كنفسك» (مرقس ١٢: ٣١)، لدى يوحنّا، علينا أن نُحبّ بعضنا بعضًا أكثر من نفسنا. أساس هذا التفويض الجديد ليس مبدأ أخلاقيًّا بل مثالٌ شخصيّ: «وصيَّة جديدة أنا أُعطيكم: أن تحبُّوا بعضكم بعضًا. كما أحببتكم أنا تحبُّون أنتُم أيضًا بعضكُم بعضًا» (١٣: ٣٤). اختيار يوحنّا للصيغة «كما أحببتكم أنا» يشير إلى فعل حُبّ واضح ومُحدّد. يفكّر يوحنّا في الصليب الذي بذل عليه الراعي الصالح حياته من أجل الخراف: «ليس لأحد حبٌّ أعظمُ من هذا: أن يضع أحدٌ نفسهُ لأجل أحبَّائه» (١٥: ١٣).

يتحدّث يوحنّا عن الحبّ، في رسالته الجامعة الأولى، على غرار موت الربّ الطوعيّ: «بهذا قد عرفنا المحبَّة: أنَّ ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحنُ ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة» (٣: ١٦).

هذا هو نوع الحبّ الذي تطلّع إليه الرسول بطرس: «يا سيّد، لماذا لا أقدر على أن أتبعك الآن؟ إِنِّي أضع نفسي عنك» (١٣: ٣٧). ومع ذلك، فإنّ هذا الحبّ يفوق القوّة البشريّة. لم يكن بطرس قادرًا على القيام بذلك بمحض إرادته. لم يكن ذلك ممكنًا لأنّه لم يكن لديه، حتّى الآن، نموذج المسيح. عطيّة اللَّه هي سابقة: «في هذا هي المحبَّة: ليس أنَّنا نحن أحببنا اللَّه، بل أنَّهُ هو أَحبَّنا» (١ يوحنا ٤: ١٠).

بمجرّد أن يتلقّى بطرس هذا الحبّ، هديّة المسيح، سوف يُصبح قادرًا على التضحية بحياته من أجل المسيح: «متى شختَ فإنَّك تَمدُّ يديك وآخرُ يمنطقك، ويحملكَ حيثُ لا تشاء. قال هذا مُشيرًا إلى أيَّة ميتة كان مُزمعًا أن يمجِّد اللَّه بها. ولَمَّا قال هذا قال له: »أنت اتبعني» (يوحنّا ٢١: ١٨- ١٩).

سيكون بطرس قادرًا على إظهار هذا الحبّ فقط كعمل «اتّباع» للمسيح.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search