العدد الثالث - سنة 2022

11 - ذكرى - إلى الصديق الراحل جورج ناصيف ولو بعد حين كلمات منه وكلمات فيه - غسّان الحاجّ عبيد - العدد 3 سنة 2022

هذه الكلمات دينٌ مستحقٌّ عليّ لجورج، وقبل اليوم كان أوانها. وإنّي لأعترف بأنّي أتيت بها متأخّرًا؛ لكنْ، أن تأتي متأخّرًا خيرٌ من ألّا تأتي. أكتب هذه الكلمات، ولو بعد حين، وفاءً منّي لجورج، وكذلك وفاءً منّي بوعدٍ كنت قطعته لزوجته نجاة نعيمة لمّا اتّصلت بها معزّيًا، فطلبت منّي أن نكتب لجورج ونكتب عنه. لكنّ المسكينة لم تتوقّع أنّ المنيّة ستوافيها سريعًا؛ فقد رحلت هي الأخرى على حين غرّة، ليس بعد جورج بكثير، قبل أن يكون لها في قراءة هذه الكلمات نصيب.

وبعد؛

«... عشقها؛ عشقته؛ صارا في العشق واحدًا؛ فما عدنا ندري، إذا أمضّنا العشق، لأيّهما كنّا عشّاقًا»(١).

بالطبع، ليست هذه الكلمات لي. إنّها للصديق الراحل الصحفيّ والأديب المرحوم جورج ناصيف الذي انتقل عنّا، منذ أكثر من سنة، إلى الأخدار السماويّة، إلى حيث اشتهى دومًا أن يكون، إلى جوار سيّده الأوحد، بل ومعشوقه الأوحد يسوع المسيح.

هي فقرةٌ اقتطفتها من كلمة له تعود إلى مطلع سبعينيّات القرن الماضي، وما زالت، إلى اليوم، راسخةً في ذاكرتي، ربّما لروعتها الأدبيّة، أو، ربّما لما تعنيه لي مناسبتها، أو، ربّما، للاعتبارين معًا، لست أدري. إنّما أدري شيئًا واحدًا: أنّها كانت كلمة ثمينةً جدًّا، طرّزها جورج بخيوط من ذهب، وقدّم بها المطران جورج خضر يوم دعوناه، ذات أمسيّة، إلى بيت الحركة في المصيطبة، آنذاك ليحدّثنا في «المزاعم الصهيونيّة والتوراة». كنّا، يومها، طلّابًا في الجامعة اللبنانيّة، وشكّلنا فيها، معًا، فرقة جامعيّة تابعة لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة – مركز بيروت؛ وكانت هذه الفرقة «عقدًا فريدًا»، وكان جورج فيها واسطة العقد، بل كان بريق العقد ووهجه. يومها كانت فلسطين المغتصبة جرحنا جميعًا (وما زالت هكذا بطبيعة الحال)، وكانت قضيّتها ما تزال قضيّة العرب المركزيّة، قبل أن تنتهك السياسة وبازارات السياسة عذريّتها وتطرحها في سوق المقايضات الرخيصة التي أنشأتها، في منطقتنا، لعبة الأمم الآثمة.

عرفت جورج زميلًا في كلّيّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة، كما عرفته في صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أخًا ناشطًا في خدمة الكنيسة وقد جرحه التردّي البادي في بشريّتها هنا وثمّة، كما جرحه حبّه لختنها وسيّدها يسوع الناصريّ، وحبّه للذين أحبّهم يسوع باعتبارهم إخوته، ووحّد ذاته بهم. وكشف لي عن جرحه هذا وهو يبكي، يوم وافاني إلى كنيسة رقاد السيّدة في أميون، ليكون إلى جانبي في الخدمة الإلهيّة التي أقمناها، يومها، عن روح شقيقي إيلي لمناسبة مرور أربعين يومًا على وفاته. كان، يومها، يتنقّل بصعوبة فائقة بعدما ثقلت عليه حركة قدميه إثر إصابته بالفالج الذي أقعده. يومها قال لي وعيناه تدمعان: «لقد تعلّمنا من المطران جورج (خضر) أنّ كنيسة يسوع الناصريّ جرحنا، ولا يبلسم جرحنا هذا سوى حبّنا ليسوع وتجنّدنا لكلمته بغية خدمتها». وكان باديًا في كلامه إجلاله الكبير للمطران جورج وتأثّره البالغ بفكره وقلمه، فتتلمذ عليه وانطبع به كما انطبع به، في تلك الحقبة، كثيرون من شبيبة «أنطاكية الجديدة».

انجذب جورج في شبابه إلى الالتزام السياسيّ، إذ رأى فيه مجالًا مؤاتيًا يترجم عبره قناعاته السياسيّة، لا سيّما تلك التي تمسّ الإنسان في صميم وجوده وفي قضاياه الكبرى، وعلى رأسها قضيّة فقراء الأرض ومساكينها. هؤلاء كانوا هاجسه وكانوا جرحه، وكان يلهج بهم على الدوام، لأنّهم، بنظره، «مذبح الأخ» كما يعلّم القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم ومائدة اللَّه الكونيّة. هؤلاء شغلته قضيّتهم في الأرض واستحوذت منه على اللبّ والقلب. وكان، دومًا، يقول: حيث الأذلّاء والمقهورون هناك يسوع مصلوبٌ وقائم؛ حيث المسبيّون والمقتلعون عنوةً من ترابهم وجذورهم هناك يسوع مصلوبٌ وقائم؛ حيث المتألّمون والجياع والحزانى قابعون وليس من يرمقهم بطرفة عين هناك يسوع مصلوبٌ وقائم. حيث المهمّشون والمنسيّون والمرميّون ظلمًا وإهمالًا على قارعة الوجود وليس من يذكرهم هناك يسوع مصلوبٌ وقائم. من هذا الباب ولج جورج ميدان السياسة ومارسها. مارسها فكرًا ونضالًا ولم يمارسها ترفًا أو مهاترات. مارسها بعفّة وطهارة كما يليق بالسياسة الإنسانويّة أن تمارس. ولم لا؟ ثمّ، من قال إنّ السياسة والطهارة لا تلتقيان؟ بيد أنّ الأمر يتطلّب رجالًا تجرّدوا من الأنا وحبّ الأثرة وعرفوا السياسة خدمة للصالح العامّ ورسالة؛ وهؤلاء، ولو قلّة، موجودون. بهذه الروحيّة «اشتغل جورج سياسة» كما يقولون، وبهذا النفس، لمّا شاء أن يختبر العمل السياسيّ ميدانيًّا على الأرض، انخرط في أطرٍ ومنظّمات سياسيّة مختلفة؛ لكنّه، مرّةً واحدةً، لم يضيّع البوصلة، وكانت سيماؤه دومًا على جبهته: شاهدٌ للمسيح على دروب الإنسان. ولمّا أصدرت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في مؤتمرها العامّ الثاني عشر الذي انعقد العام 1970 في البلمند، وثيقة التزام شؤون الأرض، كان هو، يومها، من الإخوة الذين واكبوا مخاضها، واشتغلوا على بلورة الإشكاليّات التي ساهمت في الدفع باتّجاه إصدارها.

في هذا المسار كلّه كان جورج ناصيف عاشقًا للكلمة البكر الحلال، التي لم يخالطها غشٌّ ولا رياء، الطالعة من رحم الحقّ والحقيقة، والبازغة من فجر الطفولة التي لا تعرف غير الصدق. هكذا كانت كلمته على صفحات هذه المجلّة، وهكذا بقيت في كتاباته الصحفيّة لمّا امتهن الكتابة الصحفيّة. وفي إطلالاته الإعلاميّة، المرئيّة والمسموعة، كانت الكلمات تخرج من فيه حارّةً كالنار، قاطعةً كحدّ السيف، ليس فيها تملّق، ولا مراءاةٌ، ولا محاباةٌ للوجوه. فكرٌ متّقدٌ ناريٌّ، وقول ناريٌّ، يزيّنهما سبكٌ متينٌ وبيانٌ ساحرٌ أخّاذ يضيفان إلى جمال اللغة العربيّة جمالات. تلك كانت حماسة الروح فيه وتوثّب العقل وحرارة الوجدان.

صليب المسيح كان معتصم جورج على الدوام، وبه كان يتشدّد. ولمّا أقعده الفالج وبات عاجزًا عن الحركة، قضى سنواته الأخيرة حاملًا صليبه، صليب الألم، بتعب كبير، ولكن برجاء وصبرٍ عظيمين. إلًا أنّ ربّه لم يشأ أن يتركه حبيس آلامه، فلطف به وناداه إلى الحرّيّة الكبرى والانعتاق؛ وكان هو، دومًا، يضرع إلى ربّه أن «الآن أطلق عبدك أيّها السيّد...». ناداه ربّه إلى مائدة الفرح، فنزل عن صليبه وسلك درب القيامة و... مشى.

تلك، جورج، كانت كلماتٍ منك وكلماتٍ فيك. وتبقى عندي كلمة أخيرة إليك. أخي الحبيب، لا شكّ في أنّ غيابك عنّا بالجسد يؤلمنا؛ فقد كنت في الحركة، وفي الكنيسة بعامّة، نكهةً خاصّة طيّبة، وكانت لك بصمتك. لكن، يعزّينا عن غيابك أنّ ربّك اختار لك، وفي الوقت المؤاتي، نصيبًا أفضل، فنقلك إليه قبل أن ترى، بعينيك، رجسة الخراب قائمة في «هياكل» البلد. لبنان، يا جورج، هذا البلد الطيّب، الذي نشأنا فيه معًا، وأحببناه معًا، وأخلصنا له معًا، لبنان الذي جعلنا منه أرضًا لشهادتنا ومنطلقًا، لبنان هذا باتت جراحه، اليوم، بليغة. سقط فيه العدل وسقط، مع العدل، البنيان كلّه. فالفقراء فيه والمقهورون والأذلّاء و... الذين أحببتهم، هؤلاء رقعتهم تكبر يومًا بعد يوم، وصار وسعها وسع البلد... وباستثناء دول معدودة على أصابع اليد الواحدة أظنّ أن ليس في العالم بلدٌ عرف حالًا أسوأ من التي نعيشها نحن اليوم في لبنان. الإنهيار شاملٌ وكامل وقد بتنا في أسفل درْك. والشكوى عامّة والأنين عميم وليس من يسمع. فالذين يفترض بهم رعاية الناس في أبسط حقوقهم لاهون عن الناس برعاية أنفسهم وملء بطونهم، حتّى ليصحّ فيها قول المتنبّي: «فقد بشمْن وما تفنى العناقيد». لبنان هذا، يا أخي، يكاد أن يكون في شبه موتٍ سريريّ، وما عادت تنفعه الحلول السياسيّة ولا الدجل السياسيّ المستشري. إنّه بات بحاجة إلى حلول من فوق، من لدن ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. صلّ من أجلنا لديه، وأنت اليوم بجواره تستقرّ وتستريح، أن يتعطّف علينا وينظر إلينا بإشفاق. «إنّ طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فعلها». والسلام.

Loading...
 

 

 

­­

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search