ربّما كان الأجدر أن تُكتب هذه السطور إبّان شهر آذار الماضي حين احتفلت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة بعيدها الثمانين. غير أنّ كتابتها اليوم ليست متأخّرةً بالتأكيد، فالعام الثمانون لحركتنا الغرّاء لم ينقضِ بعد. ومرور الزمن يجب ألّا يكون مدعاةً للتهرّب من العكوف على استجلاء الأمور في بواطنها.
من النافل القول إنّ أيّ مؤسّسة في العالم تحتاج إلى قراءة تقويميّة بعد انقضاء هذه المسافة الزمنيّة المديدة من عمرها ودخولها زمن الجيل الثالث، أو حتّى الرابع. لكنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ليست «مؤسّسةً» عاديّة، وربّما يذهب بعضنا إلى أنّ الطابع المؤسّسيّ فيها، والذي لا يسعنا إنكاره طبعًا، ليس جوهريًّا، بل هو مجرّد مسألة تنظيميّة فرعيّة على ضرورتها. فالحركة أنشأها إنجيل يسوع الناصريّ، وهذا الإنجيل ليس مؤسّسةً ولم يهدف إلى إقامة مؤسّسات. وهو بالدرجة الأولى خبر سارّ عن موت السيّد وقيامته من أجلنا يبثّ فينا الحياة وطاقة التجدّد. وإذا كانت التوبة، واللفظة اليونانيّة الموازية (metanoia) تحيلنا إلى تغيير الذهن، في صلب الإنجيل، وهي كذلك فعلًا، تصبح القراءة التقويميّة لماضي الحركة وحاضرها مسألةً لا بدّ منها، لا ترفًا عقليًّا متروك لنا أن نُقبل عليه أو أن ندبر عنه بحسب أذواقنا ومشاربنا. ولفظ «تقويم» هنا يجب أن يؤخذ بدلالتيه، أي من حيث هو مراجعة نقديّة وحكم في القيمة (ما يُصطلح أحيانًا على الإشارة إليه بلفظ «تقييم») ومن حيث هو تصحيح (قوّم الشيء، أي أزال اعوجاجه).
لن أتوقّف هنا عند الإنجازات الكثيرة التي حقّقتها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة منذ تأسيسها وما زالت تحقّقها حتّى اليوم. فما لا يرقى إليه الشكّ هو أنّها جدّدت الحياة الكنسيّة في مظاهرها كافّةً، ولا سيّما الليتورجيا ودراسة الكتاب المقدّس والتراث بعامّة، ساعيةً إلى ربط الوعي الأرثوذكسيّ (أتحاشى هنا عمدًا استخدام مصطلح «الهويّة» الأرثوذكسيّة بسبب التباسه والميل إلى فهمه فهمًا جامدًا) بهاجس الفقير والضعيف، وبموقف انفتاحيّ على الآخر المختلف، أي على المسيحيّ الآخر والمسلم والعلمانيّ وصولًا إلى دفاع مؤسّس الحركة وملهمها المطران جورج (خضر) عن حرّيّة الملحد و«الكافر» (حديث الأحد 1، ص 129-132). لكنّ الإفراط في مديح ما أُنجز في الأمس هو غاية في الخطورة، لا لأنّه ربّما يحدونا على تحاشي التطرّق إلى الهفوات والعيوب فحسب، بل لكونه معرّضًا لأنّ يصبح تعويضًا عن نقائص الحاضر. من هذا المنطلق، أودّ التوقّف عند مسألتين تبدوان لي اليوم على جانب كبير من الأهمّيّة، وهما، في تصوّري، يجب أن تكونا في صلب العمليّة التقويميّة التي أدعو إليها.
الأزمات الحركيّة
لا شكّ في أنّ الحركة خاضت عبر تاريخها أزمات كثيرة،كان بعضها مع السلطة الكنسيّة أو مع أحزاب سياسيّة تحاول أن تفرض «أجندتها» على الشأن الكنسيّ. من الضروريّ بمكان الغوص على أسباب هذه الأزمات وتحليل سلوكيّات الجماعة الحركيّة في كلّ منها. ولكن يخيّل لي أنّ هناك أزمتين يجب التوقّف عندهما على وجه الخصوص، وذلك لكونهما هزّتا «الجسم» الحركيّ من الداخل، إذ كان هذا الجسم لا يتصارع، إذا جاز التعبير، مع عناصر «خارجيّة» كالأحزاب العقائديّة، بل مع ذاته. الأزمة الأولى أفضت، في مطلع السبعينات، إلى مغادرة بعض الحركيّين ذوي النزعة اليساريّة الحركة بشكل نهائيّ، أو شبه نهائيّ، وانخراطهم في أطر أخرى تتيح لهم، من وجهة نظرهم، التعبير عن خياراتهم المجتمعيّة والسياسيّة بشكل أكثر وضوحًا وفاعليّة. والمعروف أنّ هذه الأزمة، التي تطرّق إليها معلّمنا كوستي بندلي في بعض مقالاته، نجم عنها نصّ على جانب كبير من الأهمّيّة في تاريخ الوثائق الحركيّة هو ورقة «التزام شؤون الأرض». لكنّ هذه الورقة، على أهمّيّتها، عجزت عن رأب الصدع الحركيّ آنذاك. فاعتبرها بعض الحركيّين الذين خرجوا ورقةً لا تلبّي طموحاتهم، فيما رأى فيها آخرون أنّها نصّ يذهب بعيدًا في التشديد على الالتزام المجتمعيّ والسياسيّ.
الأزمة الثانية، والتي رحنا نعيش ملابساتها منذ العام 2012، هي قضيّة التحرّش الجنسيّ على أنواعه، ولا سيّما التحرّش ببعض الأحداث الذين كانوا يختلفون إلى أحد الأديرة. هذه القضيّة لم تسفر عن انشقاق في الجماعة الحركيّة، ما يدلّ على أنّ هذه الجماعة، رغم ما ينسبه إليها بعضهم من هشاشة أو من غلوّ في التنوّع، هي أكثر ثباتًا ممّا يُظنّ للوهلة الأولى. لكنّ الأكيد أنّ قضيّة التحرّش الجنسيّ قضّت مضجع كثير من الفروع والمراكز الحركيّة، وخلخلت الاعتقادات السائدة هنا وهناك بكيفيّة ممارسة الإرشاد الروحيّ، وطرحت على نحو غير مسبوق مسألة التربية الجنسيّة في عائلاتنا ومدارسنا، وفي الفرق الحركيّة بطبيعة الحال.
في العمليّة التقويميّة التي ندعو إليها، والتي نحاول هنا وضع بعض إرهاصاتها، يجب التنبّه إلى مسألة غاية في الأهمّيّة. ما انطوت عليه الأزمتان المشار إليهما أعلاه كان، بالدرجة الأولى، نقاشًا خيض داخل الجماعة الحركيّة. لكنّ اللافت أيضًا، وهذا هو بيت القصيد في ما أسعى إلى تبيانه، أنّ هاتين الأزمتين كانتا «منتجًا حركيًّا»، إذا جاز القول، ساهمت في صنعه عوامل من خارج الحركة. فالأزمة الأولى من المستحيل الإحاطة بها إذا لم نأخذ في الاعتبار الاصطخاب المجتمعيّ والسياسيّ الذي عاشته بلادنا إثر ثورة الطلّاب في أوروبّا، وما صاحبها من اشتداد ساعد النزعات اليساريّة في المجتمعات المحسوبة على الرأسماليّة. والأزمة الثانية كانت النتيجة شبه «الطبيعيّة» للوعي الجديد الذي كرّسته «ثورات الربيع العربيّ» في موجتها الأولى (2010-2011)، والذي لا يتورّع عن فضح عيوب الذهنيّات المجتمعيّة، بما فيها العناصر المختصّة بالجنس، رافضًا محاولات الالتفاف عليها. ينتج من هذا أنّ أيّ عمليّة تقويميّة للخبرة الحركيّة في الماضي والحاضر، وأيّ عمليّة استشرافيّة للمستقبل، لا يمكن أن تتمّ من دون أن نأخذ في الحسبان مثل هذه العوامل الخارجيّة التي بتنا ندرك اليوم أنّها تترك أثرًا عميقًا في الحياة الحركيّة، ولا سيّما في منظومة الحركيّين القيميّة، وربّما تعيد هيكلتها من جديد ولو على نحو مستتر ومتقطّع.
شجون الإدارة الكنسيّة
لا يختلف اثنان على أنّ النموذج الذي اعتمده الحركيّون في سبيل إصلاح الحياة الكنسيّة ووضع مداميك وعي أرثوذكسيّ متجدّد هو نموذج التغيير «من الداخل». مع مطلع السبعينات، شعر كُثُر من الحركيّين بأنّ هذا النموذج بدأ يؤتي ثماره المرجوّة. فقد انتُخب عدد من الحركيّين الملتزمين كي يصبحوا مطارنةً في المجمع المقدّس، فيما انخرطت فئة كبيرة من الشباب الحركيّ في سلك الكهنوت وفي الحياة الرهبنيّة. وتصاحب هذا مع دور لافت اضطلع به الحركيّون لوضع قانون جديد لكنيسة الروم الأرثوذكس الأنطاكيّة يشدّد على أهمّيّة الالتزام الكنسيّ الواعي في ممارسة شؤون الإدارة الكنسيّة، ولا سيّما عبر مجالس الرعايا ومجالس الأبرشيّات. صحيح أنّ هذا القانون بقي غير مطبّق في كثير من الحالات والأمكنة. لكنّ هذا لا يلغي أنّ واحدةً من الثوابت الأساسيّة التي أملت صوغه هي ضرورة التمييز بين الكنيسة والطائفة من جهة، ومحاولة الحدّ من التأثير السياسيّ في إدارة شؤون الكنيسة من جهة أخرى.
نعرف اليوم أنّ نموذج التغيير «من الداخل»، رغم الثمار التي حبل بها في غير مجال، فشل في تحقيق مسألتين أساسيّتين: أوّلًا الحدّ من التسلّط في أوساط القيادة الكنسيّة، وثانيًا تجديد البنى الكنسيّة بما يتيح لغير الإكليروس، ولا سيّما للشباب والنساء، المشاركة بشكل أكثر فاعليّة في إدارة الكنيسة وآليّات صنع القرار. آن الأوان لتحليل هذه المسألة تحليلًا عميقًا. فمن الواضح أنّنا لا نتعامل هنا مع ظاهرة فرديّة، بل مع بنية سيكولوجيّة جمعيّة تتغذّى ممّا اصطلحنا في العادة على أن نطلق عليه تسميات مثل «لاهوت الكاهن» و«لاهوت الأسقف». لماذا تردّد الحركيّون، وبعضهم من رعيلها المؤسّس، في خوض مغامرة تغيير الهيكليّات الكنسيّة في العمق مكتفين بالمراهنة على القداسة بشكل شبه حصريّ؟ كيف غاب عنهم أنّ القداسة معطًى لا يصنعه البشر وأنّ مفاعيلها التقديسيّة على صعيد الجماعة الكنسيّة تبقى محدودة إن لم تتجسّد وتُترجم عبر إصلاح البنى الكنسيّة وقوانينها، بحيث تأتي إدارة الكنيسة أكثر انسجامًا مع روح الإنجيل؟ وهذا يصنعه البشر بوحي من روح القداسة.
أمّا في ما يختصّ بالقوانين الكنسيّة في صيغتها الحاضرة، فهي، بالإضافة إلى عدم تطبيقها، تطرح بالتأكيد مسألةً لا يمكن الاستهانة بها ويبدو أنّ الفكر الحركيّ لم ينكبّ عليها بما فيه الكفاية: صحيح أنّ الكنيسة ليست هي الطائفة، وأنّه من غير المسموح الخلط بين الجماعة الكنسيّة بوصفها معطًى اجتماعيًّا والكنيسة في صفتها جماعةً أخرويّةً تلتفّ حول الكأس وتعيش من الإنجيل. لكنّ الأكيد كذلك أنّ الأرثوذكس غير الملتزمين ينتمون، بمعنًى ما، إلى الكنيسة أيضًا، لا إلى الطائفة الأرثوذكسيّة فحسب، وذلك بفعل معموديّتهم، التي لا يسع أحد إلغاءها أو التقليل من شأنها. هذا يستدعي التفكير في كيفيّة تفعيل انتماء هؤلاء إلى الكنيسة، وهم بطبيعة الحال الغالبيّة الساحقة، من خارج الأطر التقليديّة التي اعتدنا عليها (ما نصطلح في العادة على تسميته «العمل البشاريّ»)، وذلك من دون أن نقع في فخّ العقليّة الطائفيّة.
خاتمة
ما أتينا على ذكره إن هو إلّا مجرّد أفكار نضعها في تصرّف الجماعة الحركيّة في سبيل العكوف على عمليّة تقويميّة أضحت اليوم ضروريّةً إذا نحن أردنا لحركتنا أن تلتمع وتمعن في الالتماع، لا أن تستمرّ لمجرّد الاستمرار. لا شكّ في أنّ هذه الأفكار يجب تعميقها واستكمالها، وصولًا إلى مساءلتها وتشذيبها. لكنّ ثواب الاجتهاد لا يكمن بالدرجة الأولى في صواب المقاربة، بل في قدرته على إطلاق حوار جدّيّ ومثمر في إطار جماعة تلتفّ حول الكأس المقدّسة دون سواها...