«ها أنذا واقف على الباب وأقرع» (رؤيا 3 : 20): وإن كانت الخليقة قد تركت خالقها خارجًا متسوّلًا حبّها، فهو لا يقف مكتوف اليدين. فهو يقرع على باب الكون، وباب التاريخ وباب قلب الإنسان وجسده، فاعلًا في تراب الطبيعة والبشر ليوقظ الإنسان. تصف رؤيا يوحنّا هذا التوتّر الشديد بين الزمن والملكوت في صور يعسر على العقل حصرها بكلام المنطق، ولكنّها تصل الذي يُرى بما لا يُرى. وبهذه الصور تبدو الرؤيا وكأنّها شبكة قراءة تخوّلنا أن نستشفّ في كلّ حدث تاريخيّ أعماقه الروحيّة، في مواجهة اللَّه والإنسان التي تهزّ الكون في أبعاده المنظورة وغير المنظورة، في مواجهة الزمن والملكوت أو تداخلهما.
من جهة، نتلمّس في الرؤيا الزمن السماويّ، المنسوج بالحبّ والتسبيح، الذي يلامس الأرض في جمال الخليقة وعبر الليتورجيا وقداسة الأشخاص، أي عبر الكنيسة كقلب التسبيح الكونيّ. تنتظم الليتورجيا الأرضيّة مع الليتورجيا السماويّة ومعها العالم كلّه: «ونظرتُ، فسمعتُ أصوات كثيرٍ من الملائكة وهم يحيطون بالعرش وبالكائنات الحيّة الأربعة والشيوخ... وسمعتُ كلّ خليقةٍ في السماء والأرض وتحت الأرض وفي البحر والكون كلّه تقول: للجالس على العرش وللحمل الحمد والإكرام والمجد والجبروت إلى أبد الدهور» (رؤيا 5: 11- 14). في قلب هذا الزمن المستنير يمسح الربّ من كلّ وجه كلّ دمعة، وعلى عتباته يمارس المؤمنون خدمتهم الملوكيّة ويشاركون في الحصاد الملائكيّ ليخلص كلّ جسد (1تيموثاوس 2: 4). «قدّوس أنت وحدك: جميع الأمم ستأتي وتسجد بين يديك» (رؤيا 15: 4). يمثّل هذا الزمن السماويّ التدبير الإلهيّ الذي يعاينه من الداخل من أعطوا نفوسهم له بالكامل ومن دون رجعة، فاختُطفوا إلى أعماق المحبّة الإلهيّة الفائقة فعاينوا اللَّه. من جهة أخرى يواجه هذا الزمن زمنًا مشوّهًا مسخته قوى الظلام، أي البشريّة التي أسلمت نفسها لأمير هذا العالم.
في تضادّ ظاهريّ، يزيد انكشاف الحبّ الإلهيّ- الذي بدأ بالتجسّد- عوارض هذا التوتّر بين التاريخ والملكوت. منذ التجسّد، يزور اللَّه الإنسان من الداخل ومن القعر، من عمق عدميّته فما عاد باستطاعة الإنسان الهرب من اللَّه. في المسيح تُردم الهوّة بين الخالق والمخلوق، يستنير الجحيم وينفتح العدم على النور. إذا كان اللَّه يأتي إلينا عبر كلّ الظروف، حتّى عبر أقساها وأبشعها، إذا كان اللَّه يأتي عبر الخطأة والمرذولين، لا يعود للإنسان غير حرّيّته الشخصيّة ليرفض اللَّه أو يهرب منه. إن كان النور يضيء في الظلمة فلا يمكن للإنسان أن يطفئه إلّا في نفسه، في الظلمات التي يخترعها لنفسه، وإن حوّل نظره إلى أسفل دركات العدم فلا بدّ له من أن يرى المصلوب أعمق من أعمق الدركات، ولا بدّ من أن يصادف الغفران أوسع من كلّ السجون التي وضع فيها نفسه. أيعاند أيضًا في الرفض والهروب؟ «من يظلم فليظلم بعد...» (رؤيا 22: 11). ها الملكوت يحرث التاريخ من الداخل، فالموت قد أميت، وعلى الإنسان أن يختار: فالمحبّة الإلهيّة تحوط به من كلّ الجهات كالضغط الجوّيّ، وكلّ شيء مرتبط بتحوّله الداخليّ، بانقلاب كيانه أي نواته الشخصيّة أو الروحية، انقلابًا يحرّره من عبادته الصنميّة لذاته ويفتحه على نور الروح القدس. فإمّا أن يسمح لفتيلته المدخنة بأن تلتهب بهبوب الروح ويبحر في محيط الحبّ الإلهيّ، أو يسلم نفسه لما تسمّيه الرؤيا الموت الثاني، وجودًا كاذبًا يحاول عبثًا أن يغلق عينيه عن النور الذي لا يغرب.
من هذا الرفض تتولّد الكوارث التاريخيّة، لأنّ البشر يعيشون مع البشر، والكوارث الكونيّة لأنّ الإنسان مسؤول عن الكون. ويعمل اللَّه مع مؤازريه لتعمل كلّ الأشياء لخير الذين يحبّونه. وخلف هذه الكوارث نسمع كثافة الرفض المخيف للصديق الإلهيّ الذي يقرع الباب. في نصوص الرؤيا، تمرّ البشريّة عبر صليب التاريخ من نار الدينونة التي تحرق القشّ وأعمال إبليس، إلى دينونة الدينونة حيث يمزّق المصلوب القائم صكّ عبوديّتنا، إلى فصح الحبّ والتجلّي. يظهر زمن الكنيسة عبر هذا المنظار زمن خيارات واعية وتوتّرًا لا يخلو من الأزمات بين التاريخ والملكوت.
يبدو بعض هذه الأزمات مخاضًا لا ينتهي للتاريخ: يمتطي الكبرياء وشهوة التسلّط الحصان الأبيض، يتبعه خيّال الحرب الأحمر الناريّ، والمجاعات على الحصان الأسود، والموت على الحصان الأخضر المتعفّن. يجعل الإنسان من عدميّته مطلقًا، فيلتهم الأفراد والجماعات بعضهم البعض وقد تجرّدوا من وعيهم أو جرّدوا وعيهم من كلمة اللَّه وخبز الحياة، فحكموا على نفسهم بالموت الروحيّ الذي يتبعه كلّ موت. كلّ المآسي الاجتماعيّة والسياسيّة إن هي إلّا انفضاح تراجيديا الإنسان الشخصيّة على مدى التاريخ وأحداثه.
ويبدو البعض الآخر من الأزمات كوارث كونيّة، على قدر ما يفترس الإنسان الخليقة افتراسًا وقد نصّب نفسه إله الأرض. تثور الأرض ضدّ الإنسان الذي ثار ضدّ نفسه التائقة إلى اللَّه. وتتضاعف الكوارث البيئيّة على قدر السلوكيّات الاستهلاكيّة عند البشر. غير أنّ صور الرؤيا لا يختزلها تدهور الأرض البيئيّ، بل تكشف لنا أبعادًا غير منظورة لمخاض الخليقة الذي ينتظر استعلان مجد أبناء اللَّه. فالكون يسبح في أبعاد لا تُرى، بعضها ملائكيّ وبعضها الآخر مظلم. فإذا كان الملائكة يخدمون نظام الطبيعة وانسجامها وشفافيّتها للقوى الإلهيّة التي تخترق كلّ مخلوق وتحييه، فهناك أيضًا التنانين التي تحاول في نصوص الرؤيا أن تختطف قوى الكون ومياهها والنجوم. من هنا تظهر أفعال الإنسان حاسمة في ضمّ الخليقة إلى التسبيح الإلهيّ أو تسليمها إلى هوّة الظلام السحيقة التي تحجب شفافيّة الأرض لمجد اللَّه.
هكذا يبدو في الرؤيا صراع ميخائيل مع التنين. يفضح اسم ميخائيل «من مثل اللَّه؟» كلّ الأصنام ومركزها عبادة الذات الفرديّة والجماعيّة التي تهمس بها الأفعى في الآذان: «تصيرون مثل الآلهة» (تكوين 3: 5). ويجري التاريخ على إيقاع هذا الصراع الجاري في عمق الوجود والقلوب. وترنّ كلّ أزمة وكلّ كارثة في آذان المؤمنين كدعوة إلى حبّ أعمق، ومحبّة أكثر مجّانيّة، وشهادة أكثر تجرّدًا، ليكتشف الكلّ أنّ الموت المتفشّي خلف كلّ هذه الكوارث يمكن أن يصير فصحًا إن زرع فيه حبّ الحمل الذبيح والقائم. يجب أن نشهد للنور وسط الظلمة التي تقاومه لأنّ الأيّام قصيرة، لأنّ الظلمة لا تستطيع أن تغلب النور، لأنّ النور سوف يغزو كلّ شيء. وتدعو صلاتنا وربّما تشارك في تجلّي كلّ الأشياء عوضًا من احتراقها في يوم النور العظيم الذي يخترق زماننا خميرةً أو عاصفة مطر. n
إذهب الى العمق:
Olivier Clément. Transfigurer le temps : Notes sur le temps à la lumière de la tradition orthodoxe. Delachaux Et Niestle (1959)