قد يستغرب القارىء اختيار هذا العنوان، وربّما لا. لكنّني أجده يتلاءم مع واقعنا. تعلّمنا منذ نعومة أظفارنا وتشرّبنا أنّ الفرح يُقسم الى قسمين. هناك الفرح السماويّ الذي يأتي من الربّ ومن العلاقة معه وهذا ما يسمّونه بالفرح الحقيقيّ، وهناك أيضًا الأفراح الأرضيّة الزائلة. من قام بتقسيم الفرح هكذا. هناك تعاليم في كنيستنا ليست دقيقة وهي بسبب عدم دقّتها تضرّ أكثر بكثير ممّا تنفع. وهذا مؤسف جدًّا! المسيحيّون الملتزمون يجيدون الصوم والصلاة والخدمة والعطاء والبذل والتضحية، وكلّ الأمور الجيّدة الأخرى، ولكنّهم قليلًا ما يفرحون، أو نادرًا ما يبقون في فرح مستمرّ، وهذه خطيئتهم الأُولى والأخيرة. التي إن لم يتوبوا عنها فلن تستقيم حياتهم ولا عبادتهم. العديد منّا عرف التعزية بالربّ والحبّ والفرح، لماذا لا يمكننا الاستمرار بهذا الفرح؟ وهل الفرح الأرضيّ هو حقًّا أرضيّ وزائل؟ أوَليس من المُجحف أن ندّعي أنّ أفراح الأرض، مؤقّتة، فنبتعد عنها لأنّها لا تفيدنا في حياتنا مع اللَّه وهي ربّما تبعدنا عنه؟ لماذا ما زال هذا التقسيم في كنيستنا بين ما هو أرضيّ وما هو سماويّ؟ ألم يتجسّد الربّ يسوع لكي يـوحّد الأرض بالسـماء ولكي يُعمِّد كلّ ما هو أرضيّ؟
ألا ندري أنّنا نشعر بالذنب إذا أمضينا أوقاتًا مُفرحة، وذلك بأنّنا تعلّمنا أن نُصنِّفها أنّها أرضيّة وزائلة؟ رأيي أنّ كلّ فرح وأيّ فرح معقول هو عطيّة من اللَّه نشكره عليها، بغضّ النظر إذا كان السبب روحيًّا أو أرضيًّا زمانيًّا. نسينا كيف نفرح! وربّما الناس أحيانًا لا يدَعوننا نفرح. هناك من يستخفّ بفرح الآخر وأسبابه لأنّها تنقصه أو لسبب أجهله، وهناك من يعتقد أنّ البسطاء فقط هم من يفرحون بسهولة!! وما هو تعـريف البسيط!! هل هو من تُفرحه الوردة أو القمر أو مشوار بسيط مع أخ أو أُخت. وكم يحتاج عالمنا إلى البساطة والفرح. الناس جاهزون للانتقاد، مهما سـمعـوا ومهما رأوا ينتقدون وهـذا مؤذٍ ومُكدِّر. اللَّه أعطى كلّ واحد عطايا ومواهب ليفرح بها ويخدم الآخـرين ونفسه عبرها. ألم يلجأ داود النبيّ إلى صوت المـوسيقى لكي يزيـل عـنـه الكرب. هذه موهبة من يتقنها وهي تُفيد، وكم من مواهب وعطايا لدى الناس يجب أن يفرحوا بها ويشكروا اللَّه عليها.
الأفراح الأرضيّة تصير مضرّة روحيًّا وإنسانيًّا عندما نقوم بها بتعظُّم وافتخار وبذخ وهذا ما حذّرنا منه الإنجيل. أمّا إن كان للإنسان فرح بسبب مواهب وعطايا، فما شأن الناس وما شأن «تعاليم الكنيسة» إن كان الذي يفرح يشكر اللَّه على عطاياه في كلّ يوم وفي كلّ لحظة. مشكلتنا كشـرقيّين أنّنا لا ندع الناس وشأنهم، لدينا رأي في كلّ شاردة وواردة، نحن مجتمع «الجماعة» التي تُضيِّق على الفرد وتريده على مزاجها في كلّ شيء، أحيانا كثيرة يُفقدنا هذا المجتمع الإحساس بأنّنا أحرار.
الحياة الصحيحة هي عندما يقدر المؤمن على أن يعيش الصلاة والخدمة المجّانيّة والبذل والفرح بكلّ عطايا اللَّه ومواهبه، في الوقت ذاته، ولا يدع الأشخاص السلبيّين يخطفون فرحه لأيّ سبب كان. من هنا يحتاج المؤمن إلى أن يكون مستقلًّا في إيمانه وحياته وفرحه. بمعنى آخر ألّا يدع الآخرين يؤثّرون فيه سلبيًّا بسبب غيرة أو حسد، ولا على إيمانه وعطائه المجّانيّ وخدمته. لذا يحتاج المؤمن الى الحكمة في التعاطي مع الآخرين ومع نفسه، وإلى الاستمرار بالفرح لينقله الى الآخرين. الفرح هو إكليل الإنسان إن خسره خسر معه كلّ شيء.
السؤال الذي يطرح ذاته هو كيف نفرح في وسط التجارب؟ الجواب ليس سهلًا. أعتقد أنّه علينا أن نعيد تقويم حياتنا وتقويم الأمور التي عندنا. كم من عطيّة أو موهبة أو علاقة لم نعطها القيمة الكافية. أرجو أن يمنّ اللَّه على الجميع بالتعزية والفرح العميقين. وإن استثمرنا ما عندنا من عطايا ومواهب وعلاقات قريبة أو بعيدة، أي إن فعّلنا وزناتنا، وشكرنا اللَّه من كلّ القلب على عطاياه الصغيرة والكبيرة، وخدمنا إخوتنا من دون مقابل فإنّنا حتمًا سننهض ويدوم فرحنا، لأنّ الربّ الأزليّ لا يترك الذين يتّقونه والذين يفتقدون إخوتهم ليفرحوا معًا ويُمجّدوا اللَّه الآب أبا جميع المؤمنين وكلّ الناس. من لا يعرف أن يفرح بعطايا اللَّه له شخصيًّا ويُقدّرها، ويعرف كيف يعيش الحياة بحبّ وفرح مستمرّ، لا يمكنه العطاء والخدمة والفرح من أجل الآخرين. فلنسعَ إذًا إلى كلّ ما يفرحنا بما فيه خيرنا وخير أخوتنا، لكي نفتن الآخرين ونأخذهم بفرحنا إلى تسبيح اللَّه وتمجيده، هو وحده المُعطي العطايا وسبب كلّ فرح خيِّر للإنسان على وجه الأرض.