العدد الثالث - سنة 2022

16 - خاطرة - بعض الخلاصات الروحيّة من الأزمة الماليّة اللبنانيّة الحاليّة - طوني نصراللَّه - العدد 3 سنة 2022

استخلص الربّ يسوع دروسًا روحيّة من الطبيعة، وضرب لأتباعه أمثالًا من الأرض التي عرفوها ونقبوها، فحدّثهم عن حبّة الحنطة والزارع والتينة التي لا تثمر، والقمح والزؤان والكرمة وغيرها. ولكنّه استعمل أيضًا، ولو بوتيرة أقلّ، لغة أهل الحضر والاقتصاد بأمثاله، كقوله في مَثل الوزنات:  «فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا.» (متّى 25: 27).

أمّا في عصرنا اليوم، فباتت لغة الاقتصاد على لغة الزرع تغلب، ومفردات المدينة ذاتها تفرض، وفكرنا بهموم المصارف يعبؤ. فهل يمكننا اصطفاء الدروس والعِبَر من الأزمة الماليّة الاقتصاديّة اللبنانيّة الحاليّة، على مثال نهج المعلّم من استخلاص العبر من يوميّات الشعب؟

إليكم محاولة لاستخلاص سبع عبر روحيّة من الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة الحاليّة.

1-  التوبة السريعة

أجمع خبراء الاقتصاد على أنّ جزءًا كبيرًا من الأزمة اللبنانيّة- وقد يكون الضرر الأكبر- يأتي من التأخّر في أخذ الإجراءات الصارمة، حتّى بعد تبيان الأزمة وظهورها أمام الجميع. عرف العالم أزمات اقتصاديّة شبيهة بأزمة لبنان الحاليّة، غير أنّ مسؤولي تلك الدول أسرعوا لإيجاد الحلّ والحدّ من الخسائر، وهذا ما لم يحدث في بلدنا. الدرس الروحيّ لنا، نحن المؤمنين، هو عندما نقع في الخطيئة، إذ ينفض العاقل منّا الغبارعنه ويسرع إلى التوبة. أمّا الجاهل فيتمرّغ في الوحل ويتلذّذ في الأوساخ، ويؤجّل توبته إلى أمد غير مسمّى، كما العذارى الجاهلات في مثل الربّ يسوع (متّى 25: 1- 6).

٢- الشفافيّة

من مصائب الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة أنّنا وصلنا إليها من دون تنبيه إعلاميّ وسياسيّ وافيَين، فلم يسمع المواطن عن حقيقة الأزمة قبل بروزها- رغم حدوثها- مع أنّ عددًا، ولو قليلًا، من الخبراء نبّه إليها، فتمّ التعتيم عليهم ولم يُسلّط الضوء الضروريّ على تنبيهاتهم. الخلاصة الروحيّة للفرد المؤمن هي العيش بالنور، وعلينا نحن الخطأة ألّا نستّر على سهواتنا وخطايانا، بل أن نسرع إلى فضحها بنور الاعتراف والتوبة أمام الربّ الرحيم الذي قال عن نفسه إنّه نور العالم (يوحنّا 8: 12)، وأمام الآباء الروحيّين المخوّلين غفران الخطايا (يوحنّا 20: 23).

٣- الاتّكال الخالص على نجاح ماضٍ

نعرف أنّ في الاقتصاد أيّام وفر وأيّام قلّة، ودور الاقتصاديّين هو في حفظ الوفر ليوم الضيق. ولكن ما لا يجوز عمله هو صرف كلّ الوفر في وقت القلّة، ثمّ الاستمرار بالصرف بتوهّم بأنّ الاحتياط لا يفنى. روحيًّا، يرى المؤمن نفسه في أيّام قريبًا من الثالوث القدّوس، تشبه أيّام الوفر، وفي أيّام أُخرى في جفاف روحيّ، تشبه أيّام القلّة. الدرس هو ألّا يتّكل المؤمن بشكل كلّيّ على أيّام الخير، وألّا يتوهّم أنّ المدّخرات الروحيّة من صلوات وأصوام في أيّام البركة لا تفنى مهما بدّد منها، وأنّه إن عادى اللَّه يبق له رصيد لأنّه صلّى في السابق. قول الربّ «لا أعرفكم» (متّى 25: 12) قد يكون لمثل هؤلاء.

4- الوهم أنّ الخطايا لن تظهر

توهّم من ضرّ الاقتصاد اللبنانيّ أنّ الوصول إلى الهلاك لن يظهر للعلن، وربّما تفاجأ بالنتيجة. كذلك يتوهّم المؤمن أنّ خطاياه يطمرها الزمن وحده، ومن دون توبة، في حين قول المسيح واضح، «ما من مكتوم إلّا وسيظهر ولا من مستور إلّا وسيُعلن». (لوقا 8: 17).

5- القرارات الخاطئة تؤدّي إلى الهلاك 

يعتقد البعض أنّ النعمة تدوم ولا من عديم ولا من جحيم مهما حصل. ساعدت الأزمة على تظهير الواقع الأصحّ، أي أنّ للقرارات الخاطئة نتائج وخيمة، وعندما تكلّم الربّ يسوع على «البكاء وصريف الأسنان» (لوقا 13: 28) لم يكن مازحًا. فكما قرارات دنيويّة غير سليمة أدّت إلى جحيم أرضيّ اقتصاديّ، كذلك خيارات روحيّة غير مستيقمة تقود إلى جحيم أبديّ.

٦- عنصر المفاجأة

داهمت الأزمة معظم اللبنانيّين من دون إنذار يُذكر، مع أنّها أزمة تاريخيّة قلّ ناظيرها في العالم الحديث. كم من مودع لبنانيّ تحسّر على ودائعه في المصارف قائلًا: يا ليتني أدركت قبل فوات الأوان واسترجعت أموالي، وكم قال ربّ منزل: ليتني استثمرت في الطاقة البديلة، أي الطاقة الشمسيّة، قبل الأزمة هذه. الخلاصة هي اليقظة. وتتطابق مع ما قاله المخلّص: «لو عرف ربّ البيت في أيّ هزيع يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته ينقب. لذلك كونوا أنتم أيضًا مستعدّين، لأنّه في ساعة لا تظنّون يأتي ابن الإنسان.» (متّى 14: 43-44)

٧- آنيّة الكتاب المقدّس

هناك من يعتقد أنّ أقوال المسيح كانت صالحة في أيّام كتابة الإنجيل، أمّا اليوم، أي بعد ألفَي سنة، فكثير من أقواله ما عاد يصلح. أصحاب هذا الرأي يستشهدون بقول المسيح «لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ» (متّى 6: 19) ويستخلصون أنّ المال الحديث لا يفنى بالسوس والصدأ، وإذا كانت أموالك في المصرف فالمصرف يعوّض لك أيّ سرقة قد تحدث لودائعك المصرفيّة. وأتت الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة لتبرهن أنّك مهما حميت كنزك الأرضيّ فسيطاله اللص، فلا مصرف ولا غير مصرف يضمن لك رصيدك، وبالفعل «اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ، وَلكِنَّ كَلاَمِي (أي كلام المسيح) لاَ يَزُولُ.» (لوقا 21: 33).

مهما لقّن الإنسان نفسه دروسًا وعِبرًا من عالم المال والاقتصاد، يبقى الدرس الأهمّ في أقوال الربّ يسوع: «لا تعبد ربّين، اللَّه والمال» (لوقا 17 : 13). عسى أن تكون هذه الأزمة الاقتصاديّة ساعدتنا على فضح شرّ تعلّقنا بالمال وألّا نعبد سوى من افتقر من أجلنا، وهو غنيّ، لكي نستغني بفقره (2كورنثوس 8: 9).

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search