العدد الثاني - سنة 2022

03 - شؤون كنسيّة - الشبيبة والكتاب المقدّس فضول للاطّلاع وصعوبة في التطبيق - الأسقف تيودور (الغندور) - العدد 2 سنة 2022

في الحقيقة، تمّ اختيار هذا العنوان لما سنطرحه في السطور الآتية نظرًا إلى ما عانته الكنيسة وتُعانيه اليوم من تَفشّي أفكار مريضة وغريبة عن إيماننا، بهدف تمزيق الكنيسة الحقَّ ونسف معتقداتها بحجّة أنّها أصبحت بالية وتحتاج إلى «تجديد». وليس بغريب أنّ هذه الأفكار تأتي من الشبيبة المتأثّرة بروح الحداثة والتطوّر المتسارع الذي يُلقي بثقله على جوانب الحياة البشريّة كافّة، وليس فقط الروحيّة منها. لذلك وانطلاقًا من الفضول في زمن المعرفة المتناثرة على حبال إلكترونيّة، نجد عددًا لا بأس به من المجنّدين والمأجورين لبثّ أفكار تشكيك وتضليل عبر حوارات شخصيّة، أو عبر مواقع إلكترونيّة ووسائل تواصل اجتماعيّ وفي المدراس والجامعات وحتّى في المطاعم والنوادي. والملاحظ مؤخّرًا كثرة الأسئلة من قِبَل الشبيبة حول الكتاب المقدّس وأحداثه وشخصيّاته، وهذا الأمر له إيجابيّاته وسلبيّاته في الوقت عينه. ففي الوقت الذي يندفع عدد من الشبّان والشابّات إلى الاطّلاع على الكتاب المقدّس وكنوزه والتنقيب عن المعاني والتفاسير المقنعة، إلّا أنّ ذلك لم يرقَ الى مرحلة التطبيق لما تعرّفوا عليه وفهموه، أي إلى عيش الكتاب المقدّس واستيعاب الليتورجية الكنسيّة على ضوء ما اكتشفوه. وهنا يكمن الصراع الذي تعيشه شبيبتنا بين اقتناع بما ورد في الكتاب المقدّس من توصيات وتحذيرات وما يفرضه واقع الحياة من ملذّات وسلوكيّات.

ما تاهَ عن إدراكنا أنّ رسالة اللَّه المرسلة إلينا، التي نطق بها الروح، وتكلّم بها الأنبياء مسوقين بالروح، هي كلمة مملوءة روحًا، نفهمها بالروح ونحياها. هي كما قال الربّ: «الكلام الذي أكلّمكم به هو روح وحياة» (يوحنّا 6: 63). إنّه غذاء لأرواحنا تتغذّى به فيكون لها حياة. وليس مجرّد حشريّة أو حفظ غيبًا لآيات ومقاطع كتابيّة ولا حتّى مجرّد جدل حول من يعرف الكتاب المقدّس أكثر من الآخر، إنّما المهمّ من يعرف إله الكتاب المقدّس ويحيا بحسب تعاليمه.  وكما قال الربّ في سفر التثنية (تثنية 8: 3)، وردّده السيّد المسيح «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم اللَّه» (متّى 4: 4). لأنّ الخبز هو طعام الجسد. والإنسان ليس مجرّد جسد، بل له روح. والروح تتغذّى بكلام اللَّه الذي هو في كتابه المقدّس. ففي الكتاب المقدّس غذاؤنا اليوميّ، لأنّنا نحيا «بكلّ كلمة تخرج من فم اللَّه». إنّه خبز الحياة وغذاء الروح.

وتاليًا إنّ رجل اللَّه يفرح بالكتاب، «وفي ناموس الربّ «مسرّته» (مزمور1) وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلًا. وعبارة «مسرّته» تعني أنّ وصايا اللَّه ليست عبئًا عليه، وليست ثقيلة، وليست فرضًا، إنّما هي سبب فرحه. ومن أجل ذلك وباختياره يقرّر تبديل سلوكيّاته المشينة واتّباع حياة تليق باللَّه ومتناغمة مع وصاياه. الأمر الذي لا يُبعده عن العالم وتطوّراته ولا يجعله يُصنّف في عداد التقليديّين أو الرجعيّين، إنّما يعطيه أفقًا جديدًا لكيفيّة التصرّف في عالم التألّق العلميّ المتسارع من دون نسيان خالق الإنسان ومعطي المواهب، ويختار من العالم ما يتناسب مع مسار الخلاص الذي يسعى إليه انطلاقًا من فهم حقيقيّ للكتاب المقدّس والذي صرّح بوضوح أنّ: «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ». (1كورنثوس 6: 12).

والخطر الكامن في هذا المجال يأتي عبر الفضول المبارك وحبّ المعرفة المفيد والمطلوب من قِبل الشبيبة، ولكنّ البحث عن هذه المعرفة وعن إشباع الفضول غالبًا ما يكون فرديًّا أو في المكان الخطأ أو مع الشخص غير المختصّ أو غير المناسب. لذا لطالما شدّدت الكنيسة على ضرورة البحث وتعميق المعرفة مع الآباء المختبرين أو مع المختصّين الموثوقين. فبحسب القدّيس غريغوريوس بالاماس، إنّ الذين لم يحقّقوا أيّ خبرة مباشرة فإنّ الطريق الأكثر أمانًا هو العودة إلى الآباء القدّيسين والشيوخ المتميّزين الذين يقودهم الروح القدس. ينبغي أن تكون نقطة انطلاقنا دومًا ما تؤكّده النصوص الإنجيليّة وممارسات الكنيسة الأولى الرسوليّة التي تحفظنا من ارتكاب جهود طائشة ورديئة. لئلّا نتوه ونصبح فريسة الذئاب الخاطفة التي تظهر لنا على شكل حملان وما أكثرها، فهي تظهر كالفطر في زمن الأزمات والحروب والكوارث مستغلّة حاجة الناس وهشاشة معرفتهم الروحيّة لتقتادهم إلى مسيحيّة مزيّفة ظاهرها الكتاب المقدّس وباطنها انحرافات جمّة وممارسات لا يقبلها اللَّه ويتقيّؤها الكتاب المقدّس ذاته.

نعلم جيّدًا أنّ شبيبة اليوم هم أشخاص وُلِدوا وترعرعوا في هذا الجيل، جيل العقلانيّة والتشكيك في كلّ شيء والاستهلاك على كلّ المستويات، والمكننة حتّى للجسد البشريّ، والسعي إلى السهل من الأمور. وكلّ مَن يريدون الخلاص الحقيقيّ يحملون معهم إلى حدّ ما خبراتهم ومشاكلهم وخطايا العالم خارجًا بتوبة وجهاد وثبات حتّى يقتنوا لأنفسهم معرفة يترجمونها عيشًا يقودهم إلى سلام حقيقيّ لن يجدوه إذا ما بقوا ملتصقين بالعالم كما قال الربّ يسوع المسيح: «سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ»، (يوحنّا 14: 27).  الكتاب المقدّس ليس فقط مصدر تأمّل، إنّما أيضًا مصدر عزاء. في كلّ حالة من حالات الإنسان النفسيّة، يجد الإنسان في آيات الكتاب ما يريح قلبه ويشبعه. في حزنه يجد كلمة عزاء، وفي فرحه يجد بهجته، وفي ضيقه يجد حلًّا، وفي مشاكله يجد فيه سلامًا، وفي يأسه يجد آيات عن الرجاء.

قال داود الملك «خبّأت كلامك في قلبي، لكيلا أخطئ إليك» (مزمور 119: 11). الكلام يجب أن يوضع في القلب، في مركز العاطفة والحبّ والمشاعر، وليس فقط في الفم، أو في العقل في موضع المعرفة فقط كما هو حال أتباع البدع القديمة والمستحدثة، فهم ذو مهارة كبيرة بالحفظ والإقناع وغسل الأدمغة، ولكنّ حياتهم وواقعهم مختلفان تمامًا عمّا يبشّرون به بالظاهر. وحينما يكون كلام اللَّه في القلب، حينئذ لا نخطئ، لأنّ وصيّة اللَّه امتزجت بعواطفنا. ما أجمل قول الإنجيل عن والدة الإله إنّها «كانت تحفظ كلّ هذه الأمور متأمّلة بها في قلبها» (لوقا 2: 19). لطالما أثّر الكتاب المقدَّس في الشعوب حتّى إنّه غيَّر عادات الشعوب الهمجيّة، حوَّل الأشرار إلى صالحين، والتعساء إلى سعداء، والزناة إلى طاهرين أفلا يستطيع تغييرنا وتغيير العالم الرازح تحت وطأة الإباحيّة والانحلال الخلقيّ؟

هذا يحتّم مشاركة المؤمنين في حياة الكنيسة بفعاليّة كبرى، ويلزم الكنيسة بمتابعة جهودها لتعميق معرفة المؤمنين وتلبية الحاجة الملحّة إلى الإجابة عن تساؤلات الشبيبة. كما إطلاق مشاريع إعلاميّة واستخدام وسائل التواصل والتكنولوجية كافّة لنشر التعليم القويم والتفسير الصحيح، من أجل فهم أفضل للكتاب المقدّس وعيش أعمق لمضمونه. وكلام اللَّه لم يكن مطلقًا لمجرّد المعرفة، وإنّما للحياة لذلك فلنعمل به.

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search