تعيّد الكنيسة الأرثوذكسيّة المقدّسة في الأحد السابع بعد القيامة المجيدة لحلول الروح القدس على التلاميذ القدّيسين، المعروف شعبيًّا بعيد العنصرة. وفي اليوم التالي له، أي يوم الاثنين تعيّد الكنيسة أيضًا للثالوث القدّوس، المعروف شعبيًّا باثنين الروح القدس. الإنجيل وسفر أعمال الرسل يبيّنان لنا فعل الروح القدس في العالم. فسفر أعمال الرسل يقدّم لنا الروح القدس بشكلٍ ألسنةٍ ناريّةٍ، في حين يبيّنه لنا الإنجيل، بحسب قول المخلّص، بالماء الحيّ.
1- تاريخ العيد
يشكّل عيد حلول الروح القدس وعيد الفصح المقدّس أهم الأعياد المسيحيّة وأقدمها. كان المسيحيّون الأقدمون يحتفلون بهما منذ عصر الرسل القدّيسين، حيث يذكر القدّيس بولس الرسول ذلك (1كورنثس)، والقدّيس لوقا الإنجيليّ (أعمال الرسل 20: 16). هذا العيد تذكره أيضًا «المؤسّسات الرسوليّة»، وهو أحد الأعياد التي كان يتمّ فيها عتق العبيد من عبوديّتهم. ويذكر هذا العيد كلّ من القدّيس إريبوس، وترتليانوس، والعلّامة أوريجنّوس، والقانون 73 لمجمع إلفيرا (نحو العام 300)، والقانون 20 من المجمع المسكونيّ الأوّل (الذي منع الركوع في العنصرة)، والقدّيس إبيفانيوس .... ترك لنا الوعّاظ العظماء، في القرنين الرابع والخامس، أدبًا غنيًّا في تكريم هذا العيد، وأمّا في النصف الثاني من القرن الرابع فتصف لنا الحاجّة الغربيّة إيثيريا (إيجيريا، سيلفيا) ترتيب الاحتفال بهذا العيد في أورشليم. ونحو نهاية القرن الرابع وبدء القرن الخامس، كان عيد العنصرة عيدًا مزدوجًا، حيث كان يتمّ الاحتفال به وعيد الصعود الإلهيّ، كما يصف ذلك المؤرّخ الكنسيّ يوسيفيوس القيصريّ، في منتصف القرن الرابع. تمّ تحديد يوم الاحتفال بهذا العيد نحو العام 400، ليكون في اليوم الأربعين بعد الفصح المقدّس، مستقلًّا عن عيد الصعود الإلهيّ كما هو عليه الحال اليوم.
2- الروح القدس لا يلغي ذاتيّة الإنسان،
بل ينيرها ويغذّيها.
فصل الرسائل الذي يتلى في عيد العنصرة يصف حلول الروح القدس كهبوب ريحٍ شديدةٍ عاصفة، وحلّ على تلاميذ المخلّص يسوع المسيح، المجتمعين معًا في أورشليم (أعمال 2: 2). الريح (وفي العبرانيّة رواح) تعني الروح، والريح، في الوقت ذاته. الروح القدس يأتي من السماء ريحًا عاصفةً، ويظهر فوق رأس كلّ واحدٍ من التلاميذ ألسنةً ناريّةً، عندما كانوا مجتمعين معًا، فقدّس كلّ واحدٍ بمفرده، وقدّسهم كلّهم معًا، أي قدّس الأشخاص المجتمعين جماعةً من أجل الشركة. إنّه يقدّس الأشخاص المميّزين ويضعهم في شركةٍ واحدة، وعملٍ واحدٍ، وخدمةٍ واحدة. الروح القدس لا يلغي ذاتيّة الإنسان أو شخصيّته، بل ينيرها ويثريها، لدرجة أنّه يكوّن في كلّ شخصيّةٍ بشريّةٍ علاقة أسراريّة لحياةٍ مقدّسةٍ مع أقانيم الثالوث القدّوس الإلهيّة، مع الأشخاص البشريّين الذين يعترفون بالإيمان الواحد المشترك، مشكّلين تاليًا كنيسة المسيح الممتلئة بنعمة الثالوث القدّوس (2كورنثس 13- 13). لذلك، في يوم حلول الروح القدس على تلاميذ الربّ تمّت أيضًا معموديّة المسيحيّين الأوّلين بالماء والروح (أعمال 2: 38- 41). من يعتمد بالماء والروح باسم الآب والابن والروح القدس يبدأ علاقةً جديدةً، حياة شركةٍ مع أقانيم الثالوث القدّوس في كنيسة المسيح.
نزل الروح القدس بهيئة ألسنةٍ ناريّةٍ لكي يبيّن أنّ «نـــار النعمــــة» هي مطهّرة من الخطايا، مثل النار المادّيّة التي تطهّر المعادن من الصدأ والشوائب، فتصبح أكثر ليونةً، ولمعانًا، ونقاءً. إذًا، الروح القدس، كالنار المادّيّة، ينقّي الإنسان روحيًّا من صدأ الخطيئة وشوائبها، وفي الوقت ذاته، يغيّر نفس الإنسان المظلمة بسبب الخطيئة إلى نفسٍ صالحةٍ، ومنيرة. لذلك، فمعموديّة الماء والروح تسمّى أيضًا «الاستنارة المقدّسة». في الوقت ذاته، لا ينظّف الروح القدس النفس من أوساخها فحسب، بل ويؤجّج حياتها الروحيّة الباردة بسبب أمراض أنانيّتها. فحرارة الروح القدس نراها أوّلًا في دموع التوبة التي تبيّن أنّ الروح القدس يطهّر الإنسان من الخطيئة، وفي الوقت ذاته، يجعل الإيمان في داخله مثمرًا مثل الماء الذي يرطّب الأرض الجافّة المتصحّرة ويندّيها فيجعلها تثمر، كما يقول القدّيس أفرام السوريّ. في دموع التوبة الحارّة نرى العلاقة الروحيّة بين الإنجيل بحسب القدّيس يوحنّا الإنجيليّ، الذي يقدّم لنا الروح القدس بأنّه «المــــاء الحــيّ». وفي كتابات القدّيس لوقا الإنجيليّ (سفر أعمال الرسل)، الذي يقدّم الروح القدس «نـــارًا محرقةً، ومؤجّجةً، ومنيرةً». بدموع التوبة تتحوّل «نــار» الندم بسبب خطايانا إلى «مـــاءٍ حــيٍّ»، إلى فعل النعمة التي تغسل خطايانا بالتوبة، فنصير مصدرًا للقداسة والصلاح.
3- الروح القدس يعزّز حياة المسيحيّ وشركة محبّته الحقيقيّة مع اللَّه والآخرين.
الروح القدس، الشخص (الأقنوم) الثالث من الثالوث القدّوس، ليس له شكل، فهو لا يظهر بهيئة بشرٍـ بل بهيئة نارٍ منيرة، مؤجّجة، ومطهّرة، ومحرقة، أو ماءً حيًّا معطيًا الحياة. لمــــاذا يظهر الروح القدس هكذا، وليس بهيئة إنسانٍ على مثال ابن اللَّه؟ لأنّ الروح القدس لا يتنافس مع ابن اللَّه الأزليّ، الذي صار إنسانًا لمحبّته للبشر وخلاصهم. إنّه لا يتنافس مع الابن، ولا حتّى يكمّله، بل يعزّزه ويرسله إلى البشر ليسكن فيهم، ويقيم معهم، ويصير ملء حياتهم، وبخاصّة عبر تناولهم إيّاه في أسرار الكنيسة المقدّسة (يوحنّا 6: 54- 57). لكون الروح القدس يفحص أعماق اللَّه (1كورنثس 2: 10) فعمله ليس مفروضًا عليه من الخارج، بل ينبع من صميم الإنسان. إنّه لا يظهر أمام الإنسان، بل يقيم ويسكن سريًّا (أسراريًّا) في نفس الإنسان، يلهمه، من دون أن يلزمه، لأنّ الإنسان يعيش بحرّيّةٍ تجعله يعيش مع المسيح أو بعيدًا عنه. هكذا، فالروح القدس هو روح الحرّيّة، حسب ما يقوله لنا القدّيس بولس الرسول: «حيث يكون روح الربّ فهناك تكون الحرّيّة» (2كورنثوس 3: 17). الروح القدس لا يظهر منظورًا أمام الإنسان، بل يأتيه أسراريًّا ويقيم في أعماقه، ويلهمه كلمة سواء، فيجعل الإنسان يقوم بالصلاح، مثمرًا بالصلاة، وبعلاقة المحبّة الروحيّة المستديمة مع اللَّه، من جهةٍ، ومع البشر، من جهةٍ أخرى. الروح القدس هو في الوقت ذاته روح الحرّيّة، وروح الشركة أو الوحدة. إنّه يحترم حرّيّتنا لدرجةٍ أنّنا نسمع صوته أو نتجاهله. لهذا، يقول القدّيس بولس الرسول: «لا تطفئوا الروح» (1تسالونيكي 5: 19)، أي لا يمكن للإنسان أن يطفئ فعل الروح القدس في داخله عبر عدم إيمانه، أو عدم اكتراثه بالإلهيّات، أو عدم مبالاته بمحبّة القريب، وتجاهله الخدمة السامريّة (الإحسان). الروح القدس هو روح الشركة، لأنّه يجمع الكلّ إلى واحد. يدعو إلى وحدة تعدّديّة المواهب في البشريّة والطبيعة (الخليقة). إنّه موزّع عطايا اللَّه ونعمه لكي يكتشفها الإنسان، ويطوّرها ليجمعها بعد ذلك ويقدّمها تقدمة شكرٍ وعرفان للَّه-الجوّاد. لا يظهر الروح القدس بهيئة إنسانٍ، لكنّه يجعل من كلّ إنسانٍ مؤمنٍ صورةً وهيئةً ليسوع المسيح اللَّه-الإنسان. وأجمل ثمار فعل الروح القدس في البشر هم قديسو الكنيسة، الأمر الذي جعل الكنيسة تكرّم، في الأحد الأوّل بعد حلول الروح القدس، جميع القدّيسين الذين ساعدهم الروح القدس ليكونوا شركاء في قداسة المسيح القدّوس الواحد، اللَّه-الإنسان.
4- «معماريّ الكنيسة» و«حـارث الطبيعة البشريّة».
بنعمة المعموديّة المقدّسة التي تمّت مباشرةً بعد حلول الروح القدس على الرسل القدّيسين (أعمال 2: 38- 41) جمع الروح القدس أشخاصًا مختلفين عن بعضهم البعض، وشعوبًا وأممًا مختلفة. القدّيس باسيليوس الكبير يسمّي الروح القدس «معماريّ الكنيسة» لكونه يبني من الداخل، في نفس الإنسان، هيكل اللَّه في الإنسان، أي يحقّق سكنى نعمة الثالوث القدّوس في كنيسة المسيح، المكوّنة من شعوبٍ بلغاتٍ مختلفة، التي بشّرها الروح القدس بلغاتها الأمّ: «نـــار» محبّة اللَّه لخلاص البشر. كمجدّدٍ ومقدّسٍ لحياة المسيحيّ، سمّي الروح القدس «حارث الطبيعة البشريّة» (القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم). إنّه يحرق أعشاب الخطيئة وأشواكها، ويرطّب بمياه المعموديّة ودموع التوبة عطش النفس المتصحّرة، لكي يزرع فيها فضائل الحياة المسيحيّة المقدّسة. لذلك، نرتّل مرارًا في الكنيسة: «بالروح القدس تحيا كلّ نفسٍ وتتنقّى مرتفعةً ولامعة» (الأنتيفونا الرابعة لصلاة سحر الآحاد). الروح القدس يرفع الساقطين، وينير المظلمين بالخطيئة، ويعتق المكبّلين بالألم. إذا، الروح القدس يجدّد حياة الإنسان ويقدّسها. ثمار عمله في حياة البشر هي الفضائل التالية: المحبّة، والفرح، والسلام، وطول الأناة، والصلاح، والإيمان، والوداعة، والعفاف (غلاطية 5: 22- 23). الروح القدس ينير فكر الإنسان ليفهم الأسفار المقدّسة، ويؤجّج قلبه ليصلّي بحرارة. عندما لا نعرف، أو لا نستطيع، أن نصلّي كما يجب، الروح القـدس نفسه يشفـع فينـا بأنـاةٍ لا توصف (رومية 8: 26)، ويصرخ أبّا أيّها الآب (غلاطية 4: 6).
لنحبّ اللَّه من كلّ قلوبنا، أبا ربّنا يسوع المسيح، فكوننا معمّدين بالروح القدس الذي من الآب ينبثق، وفي الابن يستريح، نجرؤ على دعوة اللَّه في السماء أبـــــانا، معترفين بذلك بأنّنا أبناؤه، الذين تبنّانا بنعمة الروح القدس لإيماننا باللَّه-الابن، يسوع المسيح. الروح القدس هو الماء الحيّ، يقول لنا الإنجيل المقدّس، لأنّه بالمعموديّة، والتوبة يقيمنا من موت الخطيئة في هذا العالم. وأمّا في الدينونة العامّة، فيرفعنا من الفساد (حزقيال 37: 5- 6). الروح القدس يهب الحياة لكلّ الخليقة. يهب الحياة النباتيّة والحيوانيّة «ترسل روحك فيخلقون، وتجدّد وجه الأرض. تنزع أرواحهم فيفنون، وإلى ترابهم يرجعون» (المزمور 103: 30- 31). إلّا أنّ البشر المخلوقين على صورة اللَّه ومثاله الأبديّ الحيّ، المعمّدين باسم الثالوث القدّوس، لا يمنحهم الروح القدس الوجود الحياتيّ (البيولوجيّ) أو الحياة الأرضيّة فحسب، بل أيضًا الحياة الروحيّة، أو الحياة السمـاويّة الأبـديّة، فـي فـرح الثالوث القدّوس ومجده.
5- بفعل الروح القدس تأسّست كنيسة المسيح جماعةً منظورةً.
بحلول الروح القدس على الرسل القدّيسين، أسّس كنيسة المسيح جماعةً منظورة، التي ستنتشر لاحقًا، بتعميد البشر من كلّ شعوب الأرض. كيف يؤسّس الروح القدس كنيسة المسيح، والمسيح هو رأسها وأساسها؟ لأنّ في يسوع المسيح، اللَّه-الإنسان، اتّحدت الطبيعة الإلهيّة بالطبيعة البشريّة بفعل الروح القدس (لوقا 1: 35)، وبفعل الروح القدس أيضًا، تنتشر حياة المسيح-رأس الكنيسة، وتمتدّ في كلّ البشر الذين يؤمنون بالمسيح، وتاليًا تأسّست كنيسته.
سرّ الكنيسة هو حياة المسيح المصلوب، والقائم، والصاعد إلى السماء، أي في مجد الثالوث القدّوس، الحياة التي تعطى الآن للبشر، بفعل الروح القدس، ليستطيع البشر المشاركة في الحياة والفرح الأبديّ في ملكوت اللَّه. لهذا السبب، فإنّ الخدم المقدّسة في الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تبدأ بالصلاة الربّيّة (أبانا الذي في السماوات)، بل بصلاة استدعاء الروح القد: «أيّها الملك السماويّ، المعزّي، روح الحقّ، الحاضر في كلّ مكانٍ، والمالىء الكلّ، كنز الصالحات ورازق الحياة، هلمّ واسكن فينا، وطهّرنا من كلّ دنسٍ، وخلّص أيّها الصالح نفوسنا». بعد هذه الصلاة نقول مباشرة: «قدّوسٌ اللَّه، قدّوسٌ القويّ، قدّوسٌ الذي لا يموت، ارحمنا»، وبعدها نتلو صلاة الثالوث القدّوس. هذا يعني أنّه لا يمكننا الاتّحاد مع الثالوث القدّوس إلّا بعد حصولنا على وجود نعمة الروح القدس أوّلًا. وبعد أن نكون قد تلونا صلاة الثالوث القدّوس نتلو الصلاة الربّيّة، لكي نظهر أنّنا أبناء اللَّه-الآب الذي تبنّانا بالروح القدس، بنعمة المعموديّة التي توحّدنا بالمسيح، اللَّه-الابن. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: «إنّ حلول الروح القدس تمّ بعد صعود المسيح بالمجد إلى السماء، لأنّ المسيح الربّ صالحنا مع الآب؛ وعندما صعد على عرش الثالوث القدّوس الملوكيّ، بطبيعته البشريّة المتجّددة والمقدّسة بالصلب، والموت، والقيامة وهبنا نحن البشر حياته السماويّة المتجدّدة». إذًا، الروح القدس المعزّي يأتي في العالم ليؤسّس كنيسة المسيح جماعةً منظورةً في الزمان والمكان، التي أسّسها المسيح بتجسّده، وفعله الخلاصيّ، ليقدّس المؤمنين به وليصيروا شركاء حياته الممجّدة في محبّة الثالوث القدّوس.
لنرفع الشكر للَّه-الآب لمحبّته الرحيمة، التي بها يحبّنا نحن البشر بيسوع المسيح، والحاصلين عليها بفعل الروح القدس.
وأخيرًا، نلاحظ المؤمنين في الكنيسة يحضرون أغصان الغار وأوراقه لتبريكها وتوزيعها رمزًا لألسنة النار التي أظهرت لنا نعمة الروح القدس في حياة تلاميذ المسيح ورسله القدّيسين، الأمر الذي يحثّنا على أن نطلب من المخلّص يسوع المسيح أن يحفظ كنيسته المقدّسة، المفتداة بدمه المقدّس، الواحد، المقدّسة، وأن يبارك بنعمته الطبيعة والخليقة بأسرها لمجد الثالوث القدّوس، والفوز بالحياة الأبديّة.