« ألم تقرأ بعد الإخوة كارامازوف؟» باغتني بسؤاله في إحدى أولى زياراتي للدير. هل كان الأب إلياس (مرقص) يحسّ بقرابة روحيّة تصله بشيوخ أوبتينا الذين كان يتردّد إليهم دوستويفسكي، ورسم شخصيّة الشيخ زوسيما على صورتهم؟ على كلّ حال كان الأب إلياس لمن عرفوه رحيمًا كزوسيما، عـلى رهافة روحيّة أدقّ وتأصّل عميق في تراث كنيسة الشرق. وكان يرسل الكثير من المؤمنين، ليضمّوا الأرض مثل أليوشا ويقبّلوها بدموع الفرح ويحبّوا البشر فيها بحبّ المسيح فـي يوميّات حيـاتهـم.
كتب الأب إلياس عن الأب أندريه (سكريما) ما يصلح أن يقال عنه أيضا: «ثقافته الهائلة كانت تؤدّي إلى المعرفة، المعرفة الحقيقيّة، معرفة الروح ...في روح انفتاح وتفهّم لا مثيل لها... كان ينصح بتخطّي كلّ ضعف وكلّ تردّد وكلّ شكّ وكلّ قنوط، وبطرحها وراءنا مع التسليم الكلّيّ لمحبّة اللَّه اللامتناهية». مثالٌ على منهجيّته في السير الدائم نحو المعرفة الحقيقيّة ما كتبه الأب إلياس في رسالة إلى كوستي بندلي، حول أطروحته في علم النفس، عن علاقة الصور الوالديّة والإيمان: «لا تعرف مدى فرحي لقراءة أطروحتك ذات القيمة الكبيرة. إنّي أغرف منها كلّ يوم معرفة ونورًا وغذاء روحيًّا حقًّا. أعتقد أنّك يجب أن تعمل بجدّ من أجل طباعتها ونشرها... لكي ينتفع منها البشر ويتمجّد الربّ». يكشف كلّ هذا اتّساع الأب إلياس القلبيّ والعقليّ لكلّ أنوار السيّد التي تنكشف في الثقافة والعلوم وحضارة البشر. فمن عرف السيّد يتعرّف إلى بصماته في كلّ ما يلمسه روحه القدّوس.
الكثير من خواطره التي تركها لنا في نصوص قصيرة كلمات تلغرافيّة تشبه أدب الحكمة في أسفار العهد القديم وأقوال آباء الصحراء، تلهم من يقرأها علاقة جديدة بالكلمة الإلهيّة والليتورجيا، وتشكّل في نفسه مواقف متجلّية في سلوكه مع اللَّه والبشر. محاور متكرّرة تتردّد في أقواله تكشف رؤيته الشفّافة للَّه والكون والنفس البشريّة، نختار منها في ما يلي بعض اللآلئ :
الرغبة والشوق:
«الإنسان جوع واللَّه يشبعه. حسن أن نجوع الى الحياة... ولكنّ الإنسان أفسد جوعه فصار إلى الموت...نشتاق إلى الروح لأنّه هو يشتاق إلينا». ذلك بأنّ «الإنسان كائن تسبيحيّ» أو كائن رغبة، يشدّه توق إلى المطلق. فـ«الشوق الذي وضعه اللَّه في قلب كلّ إنسان إلى السماء الزرقاء والأفق البعيد...هو بذرة الأبديّة فينا». هذه هي «حركة الحبّ التي تلصقنا باللَّه وتلحقنا به وبينبوع حياته». يذكّرنا هذا بطاقة الحبّ التي يتكلّم عليها القدّيس مكسيموس المعترف، وقد اعتبرها ديونيسيوس المنحول أحد أسماء اللَّه الأبهى، إذ يقول ما معناه: «أنظر كيف أنّ قوّة الحبّ الإلهيّة ولّدت فينا القوّة المباركة ذاتها، التي بها نتوق إلى الجمال والصلاح بتوافق مع الكلمة: أصبحتُ عاشقًا لجمالها (الحكمة 8 : 2)... إنّ قوّة الحبّ الإلهيّة تنتج الخروج من الذات، دافعةً المحبّ إلى أن ينتمي ليس إلى ذاته بل إلى المحبوب».
الامتداد إلى الأمام:
أو «الهجرة إلى اللَّه» كما يقول، في ما يشبه ارتقاء الحبيبة المتواصل في طلب المحبوب في نشيد الأناشيد، كما يشرحه القدّيس غريغوريوس النيصصيّ. صورة الامتداد حيث يقذف المتسابق جسمه كلّه إلى الأمام (فيليبّي 3 : 12- 14) هي حالة الإنسان الباحث في تجاوز مستمرّ لكلّ المراحل التي سبقت. امتدادات النعمة (أو الاشتراك فيها) بداءة لامتدادات جديدة. يأتي اللَّه إلى النفس وتسافر النفس في اللَّه.
لكنّ الأب إلياس (مرقص) يعطي لهذا الامتداد بعدًا عمليًّا: ما هو الحلّ لكلّ ضيقنا وعجزنا وضعفنا؟ عدم الغرق في أنفسنا بل إلى الأمام دائمًا... الخروج من الذات... والاهتمام بالآخرين... التوجّه إلى اللَّه». أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدّام، كما يقول بولس الرسول: «امتداد، تجاوز... مدّ النفس إلى بعيد، إلى أبعد، إلى أعلى...، بالتأمّل، بالصبر، بالشجاعة، بالشهامة، بالوصايا...بالصلاة، بالعمل، بالمحبّة... بتحويل السقطات إلى ظفر الرحمة». «نحن مخلوقون على صورة اللَّه، أي إنّنا أكبر من أنفسنا وتاليًا يجب أن نمتدّ فوق أنفسنا، أن نتجاوز أنفسنا ونسترجع أصالتنا فنعود إلى كياننا الحقيقيّ، وتاليًا إلى ميناء السلام والغبطة، إلى الملكوت، الذي هو في داخلنا».
بعدٌ آخر من هذا الامتداد هو ما يسمّيه الإبحار: «نشبّط على شاطئ البحر ونظنّ أنّنا نعرف... بينما علينا الإبحار لنعرف... الأمر الوحيد الذي يجيب عن تساؤل الناس وشكّهم وابتعادهم عن اللَّه هو الإبحار في اللَّه... الكنيسة بحاجة إلى الإبحار... إلى من يبحر». الإبحار انجذاب لا يعرف الخوف إلى صوت الروح. هذه صورة يعرفها الروحانيّون في إصغائهم لمن يدعوهم على ما يقوله طاغور في سلّة الفاكهة: «من تمسّه روحك لا يهيم في كنف الشاطئ، بل يبسط شراعه الخافق ويبحر فوق اليمّ الصاخب».
الاتّساع والانفتاح
وموقف الشكر الدائم:
يتناسب موقف الامتداد وموقف الانفتاح الدائم: «الحياة الإلهيّة هي في انفتح (إفاثا). انفتاح الكيان... لستم متضايقين فينا بل متضايقين في أحشائكم: كونوا متّسعين ...عندما نكون هيكل أنفسنا لا هيكل اللَّه نتضايق». أمّا الصلاة فهي «تنفّس، اتّساع، راحة، حياة. من دون صلاة نشعر كأنّنا نختنق». في هذا الاتّساع ندخل في موقف الشكر ثمّ التسبيح الدائم: «إنّ العجيبة القائمة والدائمة والثابتة هي أن نكون في الحياة: ابنك حيّ. إنّها العجيبة المخفاة التي تسند الكون. إنّها كلمة اللَّه logos في الكون (يسوع الكلمة): عندما قال له: ابنك حيّ، تعافى...فلنعِ هذه العجيبة الأولى والأخيرة ولنزد اعترافنا وتسبيحنا للَّه».
معاينة مجد اللَّه
في الطبيعة:
يؤدّي موقف الاتّساع والشكر إلى شفافيّة القلب فيعاين حضور اللَّه في الطبيعة في ذهول: «عدم نسيان التعجّب والانذهال: كالأطفال الذين يكتشفون الكون... رؤية لهب الأشياء كما يقول القدّيس إسحق السريانيّ ... رؤية كنهها الإلهيّ إذا جاز القول. كلّ شيء صورة ورمز عن الحقيقة الأخرى... المطلوب فقط عيون تبصر..الإحساس بالحلاوة: كلّ بوادر الطبيعة وجمالها وعطف اللَّه علينا عبرها... كلّ محبّتنا للَّه لأنّه اللَّه ... تعني حضوره إلينا».
وقد ينفخ اللَّه في نفوسنا إلهامات ترشدنا في حياتنا عبر تأمّل الطبيعة: «إنّ بعض الحشرات إذا داهمها خطر تتوقّف عن السير وتجمد، بل بعضها تتدعبل وتصبح كحبّة تراب، كلا شيء، فلا تلفت النظر مطلقًا. هكذا نحن عند اقتراب الشرّ (التجربة، الانفعال، الضيق) فلنهدأ ونتّضع وندع الشرّ يعبر».
«لكنّ الكثيرين منّا لا يرون جمال المنظر أو جمال الموسيقى. الكثيرون يمرّون أمام شمس الغروب البديعة ولا ينظرون إليها. والذين لا يتذوّقون جمال الموسيقى عددهم يفوق بكثير عدد الصمّ الحقيقيّين. لماذا؟ لأنّهم لم يستعدّوا داخليًّا ولم يهيّئوا أنفسهم لتقبّل هذا النوع من الجمال، وبهذا يغلقون على أنفسهم باب عالم بكامله. وكذلك أيضًا فإنّ التعرّف إلى اللَّه، الذي هو مصدر كلّ جمال، والشعور بحضوره الإلهيّ يقتضي منّا أن نهيّئ أنفسنا ونعدّها لهذا الأمر».
روح الطفولة:
القدرة على الذهول والاندهاش إحدى أنوار روح الطفولة التي كان يتمتّع بها الأب إلياس (مرقص). هذه سلسلة ذهبيّة من البساطة والشفافيّة والمجّانيّة والشكران، في جهوزيّة دائمة تعمّق سرّ اللحظة وتفتحها على الملكوت. يستشهد كوستي بندلي بالمحلّل النفسيّ إريك فروم ليقول ما معناه: «إذا تجاهلنا أنّ لكلّ شيء وقته وإذا أصرّينا على أن نرغم الأشياء (على الحدوث) لن ننجح أبدًا في التركيز والمحبّة. حتّى نفهم ما هو الصبر، يكفي أن نراقب طفلًا يتعلّم المشي. يقع ثمّ ينهض ثمّ يقع من جديد ورغم هذا يستمرّ في التقدّم إلى أن يأتي اليوم الذي يمشي فيه. في دروب الحياة كم سيحقّق الشخص في نموّه إذا كان لديه صبر الطفل وتركيزه». لا أعتقد أنّنا نبالغ إن قلنا إنّ أنوار الطفولة هذه كانت في صلب روحانيّة الأب إلياس، في تأصّل في إنجيل يسوع المسيـح وآباء الصحـراء الذيـن أحبّوه. يقـول مثلًا: «إنّنا نحمـل الأطفال إلى أن يحملوا أنفسهم. كذلك في الحياة الروحيّة... ولكن هنا قد يطول الأمر أكثر ... بـل قـد لا ينتهي بسـهولـة: إحملوا بعضكم بعضًا... قبـول ملـكوت السموات مثل الأطفال. الطفل = الابن الذي ينال كلّ شيء من والديه... الإله طفلًا: أي الجدّة، البداءة الدائمة، النضارة، الحرّيّة، الأمام».
الواقعيّة الروحيّة
كمرادف للتواضع:
على مثال آباء الصحراء الذين عرفوا الطبيعة البشريّة في عمقها في لاهوت اختباريّ تجسّديّ ينتج منه شعور الرأفة بجميع البشر، كتب الأب إلياس (مرقص): «أليس هذا ابن النجّار؟ الربّ يسوع بكلّ واقعه الأرضيّ الإنسانيّ في المكان والزمان. نحن كما نحن أيضًا... بكلّ واقعنا ووضعنا الشخصيّ والعائليّ والبيولوجيّ، بنوع دمنا..كما نحن، حيث نحن، بكلّ ما نحن... التواضع غير خـياليّ بل واقعيّ كلّ الواقعيّة، التواضع أن أعرف ذاتي وأن أتطابق مع ذاتي...عدم الهروب. نحن لا نذهب إلى اللَّه، بل اللَّه يأتي إلينا... روحانيّة متجسّدة...روح اللَّه هو الذي يحلّ... يملأ كلّ شيء... كلّ محاولة عكسيّة قلق ويأس... جنون. اللَّه لم يرد أن يكون كلّ شيء مثاليًّا، بل خلق العالم ليحتمله». هذه الواقعيّة المقترنة بالرحمة والتمييز تذكّر بروحانيّة القدّيسين برصنوفيوس ويوحنّا ودوروثاوس من غزّة الذين كانوا يعالجون كلّ إنسان برفق ونباهة وتدرّج في صعوده سلم الفضائل. غير أنّ هـذه الواقعيّة ليست استسلامًا بل استقبالًا لنعمة اللَّه التي تعيد إلينا قوّة الامتداد إلى الأمام والتخطّي الدائم.
هذه كانت بعض لآلئ من خواطر الأب إلياس (مرقص)، نشاركها كمن يقطف الفاكهة من بستان، عساها توقظ فينا الشوق إلى الإبحار العميق فندرس إرثه المكتوب بمنهجيّة أدقّ ونستلهمه في حياتنا في الروح.