العدد الثاني - سنة 2022

10 - خاطرة - إبحثوا عن الحبّ أوّلاً لروح سمير صدقني - إلياس عادل توما - العدد 2 سنة 2022

يبقى احتكاكنا الحاليّ متمحورًا حول ألفاظ تتلوّن وتتبدّل ويظلّ الفحوى واحدًا. العالميّة، العولمة العالم، وحتّى العلم بجدليّته السلبيّة لا الحقيقيّة في تعاطيه مع يسوع.

تُبنى هذه النظرة على سنوات وسنوات يقضيها البشر على دروب مجهولة، ضياع وغياب للبوصلة وسط كومة القشّ، تماهٍ مع الحداثة المزيّفة بأوجهها المتعدّدة المتلوّنة.

تجتاح الميديا دروب الأعصاب الحسّيّة في أجسادنا ولثِقل وقعها وتنامي حِملها يُشوّه الدرب الحسّيّ لسلوكنا ونمسي بحاجة إلى إعادة ترميم، إن لم يُقطع الطريق من الأساس. أثقال وأثقال نعزّز من وزرها بشراهتنا ، بنهمنا المتسارع إلى مواكبة «التطوّر». نلهث وراء خبرٍ ما ونبأ آخر لنُلطم ونُقذف بحسب ما يرتئي الفكر العالميّ الجديد. نرتاب، نرتعب، نمحور حياتنا حول ما يُقدّم لنا من رؤى مستقبليّة عالميّة فنيأس.

دوّامة مهولة تدور وتُدار بإتقان ووعي شرّير، تقذفنا بعيدًا عمّا نحن عليه، يذوب جهاز المحمول في مسام أيدينا، ننام على أمرٍ منه فنحن «نظريًّا» نتكلّم مع صديق أو نقرأ ما تُمليه وجوه الأصدقاء علينا من كُتب ماهيّاتهم، لكنّنا عمليًّا نفعم بما يُمليه علينا فراغنا البائس، نُغيّب تثاقلنا وهزليّتنا في القدرة على تناول كتاب تغفو عليه عيوننا المُشوّهة بمشاهد الحرب وبُقع الدم ودموع الطفولة المُتصدّرة صور الفوتوغرافيّين العالميّين، هم سلعة ووسيلة لاقتناص مبلغ ماليّ أو جائزة عالميّة في دنيا العولمة.

همّنا الدائم إبقاء هذا الجهاز على قيد الحياة. قد تنشب ملاسنات ومعارك لتوفير الطاقة له، بالمبدأ طاقته كهربائيّة إلّا أنّ البعد الأخير في إبقائه على قيد الحياة يكمن في الطاقة البشريّة، نحن، أعصابنا، أحاسيسنا، هواجسنا، يأسنا.

هاجسنا اليوم

حدّثني والدي عن صديق له، كم كان يمتلك من الصحّة والدهون الزائدة، كيف بات اليوم. سألته كيف؟ وأنا الساعي إلى خسارة بضعة كيلوغرامات. أجابني أنّه امتنع عن العشاء فقط. والدي، ورغم سعيه إلى امتلاك مهارة التجوّل في الأجواء الإلكترونيّة، إلّا أنّه لم يتعرّف بعد إلى حبوب الشوفان وبذور الشيا وغيرها ممّا لم نسمع به، ولا تعرّف إلى أنظمة غذائيّة حديثة بأسماء برّاقة لامعة لاذعة لاسعة للدماغ. بالتأكيد الغذاء الصحّيّ أمر مهمّ وممتاز، إلّا أنّ القولبة والتعبّد لمواعيد وأوقات وامتناع عن شيء والإكثار من شيء، يجعلنا قوالب خاضعة خانعة للسلع العالميّة المروُجة في نظام العولمة الجديد. لا أجد الخطأ في المادّة، إنّما في المادّيّة في التعاطي مع الأمر. نحن من حيث لا ندري ننضمّ إلى قافلة الذين رهنوا حياتهم للطبيعة لا لسيّد الطبيعة، نسارع إلى رفوفهم المزيّنة بالسلع الصحّيّة لشركات عالميّة أتقنت فنّ التسويق والترويج ونبحث في السعرات الحراريّة والكمّيّات والمحتويات. وبكثير من التباهي بالتطوّر الذهنيّ الذي وصلنا إليه نقع في فخّ تعاظم المعيشة وتنامي الطلب اللاواعي بوعي أبله. نجلس ونضع كلّ هذه الأكياس أمامنا وبلمحة على التلفاز نجد إعلانًا عن وجبة عذائيّة لذيذة لا تندرج ضمن لائحة المسموحات، فنيأس.

نفتّش في أيّ سلعة عن بلد المنشأ لنجد أنّ العالم اليوم يُنتج في بُقع فقيرة تلك السلع لتُباع للعاطلين في الدول الثريّة. قد يكون هذا وجهًا من وجوه العولمة التي تُغيّب وجود يسوع ليكاد نجيب محفوظ أن يصدق القول حين وصف ما نمرّ به بجملة: «إن خرجنا من هذه المحنة سالمين فهي رحمة وإن لم نخرج فهو عدل».

كثيرة مشاهد البشر على قارعة الطريق، هم ليسوا متسوّلين ولا محتاجين، هم يملكون كلّ كماليّات الدنيا المُفضية إلى حياة رغيدة. هم يملكون مال السامريّ الصالح إلّا أنّهم لا يقتنون قلب السامريّ، يملكون الدابّة التي ينقلون فيها المريض إلّا أنّهم لا يملكون الحسّ بواجب القيام بفعل «المحبّة».

حين تكلّم يسوع على من سيدخل الملكوت عبر أمثلة السجين والمريض والعريان والحزين، لم يكن يرنو إلى الفعل بحدّ ذاته، إنّما إلى وجوب دوام الحسّ الأخويّ من منظوره الأبويّ. إن مررنا سريعًا على قضيّة التوبة، نجد أنّ الامر ليس منوطًا بتمتمة الكلمات أمـام الكـاهن، إنّما بقـرار يُتّخذ بأن أكون نقيّ القلب نظيفًا ليدخل يسوع ويسكن في مكان يليق به.

من هم على قارعة الطريق يملكون المال والسلـطـة ليُرسلوا من يعتني ويزور ويقدّم المال، لكن هل تكمن الحقيقة هنا؟ هل يملكون من الحسّ والإحساس بالمسؤوليّة تجاه الآخر؟

قلق وغربة

تنسف العولمة، بمفرداتها الاستهلاكيّة أساسات الوعي الإنسانيّ، حقلًا من الألغام نسير عليه بدون كاسحة ألغام، مجرّدين من صلابة الروح ونقاء القلب وشجاعة العطاء. يغدو الغد همًّا يُمسك يدنا عن الامتداد نحو الآخر ويغدو الهمّ سلوكًا ليتمخّض منه القلق ..

القلق يسود العالم، لا الأفراد فقط بل دولًا تُبيد دولًا بحجّة القلق من الغد وشحّ الموارد وتعاظم الضرر، القلق هو من يسحبنا عن طبيعتنا البشريّة باتّجاه استهلاكيّتنا الدنيويّة.

القلق بمكان توبة وبمكان آخر غربة.. اللصّ اليمينيّ، عند الأمتار الأخيرة لأنفاسه، أدرك بقلقه أنّ النهاية وشيكة، وليس أمامه من درب إلّا التوبة، وأنّ الخلاص بالتسليم الكامل ليسوع، ولو كان على الصليب، بمنطق اليهود، مهزومًا. إلّا أنّ قلقه قاده لتنقشع الرؤية أمامه ويرى يسوع، ليعاين القلب الغنيّ بحرارة الحبّ ويُكوى بلهيب المحبّة ويُغمر بالدفء الأبويّ. يسوع الممدّد على الصليب يملك كامل القوّة ليبثّ الحبّ في قلب ذاك اللصّ بفعل الأمان المطلق. حين قرر اللصّ أن يكون القلق دربًا للنجاة صرخ بلسان بطرس وهو يغرق في بحر العمر «ربّي وإلهي». صرخ بشكّ توما وبفضول حاملات الطيب ودهشة الأبرص. كلّهم يمثّلون مناحي الفكر البشريّ في التعاطي مع يسوع لكن من بوّابة القلق المُفضي إلى السلام. ونلمح بمشنقة يهوذا الغربة عن يسوع، أذاقه قلقه طعم الموت بحبلٍ من صنع الإنسان، قتلته المادّة بقيمتها النقديّة وبأداتها القاتلة.

قد نعيش في بيوتنا ونشعر بالغربة، في وطننا ونشعر بالغربة. ليس الأمر منوطًا بالحيثيّات، إنّما بإحداثيّات وجودنا على خارطة الشراكة مع يسوع، وعلى ماهيّة الحبر الذي به مضينا عقد الحبّ الأبديّ الأزليّ مع يسوع. لا يكفي أن أقول يا ربّ يا ربّ. يجب أن نستشعر ثورة الدم في أجسادنا وغليان القلب بفيض الحبّ للآخر.

أخبرني طفلي أنّه التقى بفقير فأعطاه مبلغًا، فأتاه جواب من أحد الجالسين معنا: «ومن قال لك إنّه فقير، هم يملكون أكثر منّا». نظرت مرّة أخرى في مشهد السامريّ، ولست أدين أحدًا لأنّ من يكتب يملك ذنوبًا أكثر، لكنّي وجدت تقاطعات مع اللاويّ الذي وجد فيه أناه ولم يجد فيه أخاه. القلق من الغد يقتل الحاضر ويمهّد لمستقبل فارغ خاوٍ من يسوع، نضع فيه أنفسنا بغربة عنه.

يسوع يقرع. لا تقلق من البرد الذي سيأتيك من فتح الباب ولا من القيام من قرب الموقد، إبحث بجدّ عن الدفء الأبديّ بيسوع ومعه وفيه.

تكفيك نعمتي... هنا يكمن يسوع في ضعفنا لا لأنّه يستلذّ بعذاب جبلته، حاشى، إنّما لأنّ جبلته اختارت أن تعيش غربةً عنه، وهو بقي في البرد عاريًا وممدًّا على خشبة العالميّة ومسامير العولمة تنهش من جسده، من أبنائه. بقي واقفًا ينتظر قلقنا الصارخ «أذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك». إبحثوا عن الحبّ أوّلًا والباقي يأتي لاحقًا.n

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search